حين رفعوا أصواتهم بالهتاف ضده رفع لهم القبعة، وحين رُمي بالأحذية رفع لهم أكفه رامياً لهم القبلات. إنه ليس يسوع المتسامح بخده الدوَّار أمام تتالي اللطمات، بل هو ديكتاتور اليمن مهووس الحكم، لا يستطيع- حتى وإن رغب- أن يعترف بأن مزبلة بحجم ثلاثين عاماً فساداً تحتوي جثمان حكمة، الآن لا يستطيع إلاّ أن يتصور ذاته روح القُدس القادم من تحت أكوام التراب إلى كرسي العرش براقاً لامعاً من جديد. لا يستطيع أن يدرك أنه قد لقي حتفه وإن صورة زمن بطشه آخذة بالتلاشي.. ألبوم صور سني حكمة جديرة بقضبان محكمة جنايات لا في الذاكرة. شعب يريد أن يتطهر من طاغية، وطاغية يغرس أقدامه المسمارية في قلب أحلام نوارس البلاد.. شعب يريد أن ينفض عن إزره غبار الخطيئة.. خطيئة الصمت وصناعة معتوه مستبد.. بالتقليل من وثبته إلى الحكم في غفلة ستظل تجلد ضمير الجميع.. وتالياً بالقول: دعه يمر.. إنه جاهل سيغرق في أول منحنى.. سيسقط في تحديات أول ملف.
بقي الرجل جاثماً بجثته، واضمحلت أماني شعب رويداً رويداً، إلاَّ من قليل ظلال.. وقبس يضيء باستحياء الردهات، وبحذر يومض من تحت رماد حرائق الطاغية. غفلة ستدمي ذاكرة الجميع.. كيف للصمت أن يضخم "أنا" المستبد؟ كيف للصمت أن يبعث بإشاراته الخاطئة.. فحين يراد للصمت أن يكون تعبيراً عن الضيق وعدم الاكتراث يرى فيه الحاكم عبادة لذات الزعيم.. قبولاً ومبايعة.
هكذا وجد الشعب نفسه في تحدٍ جديد.. ليس مع فساد حكم وعطن.. بل مع فرد مخبول بامتياز، لم يستوعب بعد بأنه غداً ماضياً غير قابل لإعادة الإنتاج.. للاستنساخ وضخ الحياة في شرايينه مرة ثانية.
نحن أمام معتوه لا يستطيع أن يدرك أنه رحل.. سقط.. تلاشى.. اندحر.. معتوه أحرق البلاد، والبلاد في خنصر إصبعه، ويحرقها الآن.. وهي تتململ بحثاً عن طوق خلاص منه وطريق نجاة.
أحرقها حاكماً، ويضخ في جسدها كرات النار وهو على قارعة الحكم في حالة استنفار وتربص، يقظة وانتباه بانتظار لحظة الانقضاض المناسبة. نحن أمام ليس استبداداً كلاسيكي الطراز بل استبداداً مضافاً له كل توابل ومخرجات الجنون.
عادةً المستبد يحزم على عجل حقائبه، ويأمر كابتن طائرته بالتحليق خارج فضاءات الناس في أول رفض له أو آخر ربع ساعة في حياة كل مستبد طاغية. في حين معتوه هذه البلاد يشعر أن له في عنق الشعب بيعة، وعلى جثثه سيستعيد عرشه المسلوب.. حقه الضائع. معتوه لا ينفك يرى في نفسه رئيساً وفي ثورة الشعب زوبعة وسحابة صيف عابرة.. هكذا يعتقد: غداً ستسقط المؤامرة.. وينتصر الرئيس.. ونفتح الخزائن.. يطلق كلاب القنص والتعقب.. يؤذن ببدء الحساب.. طاغية من على رصيف النبذ يصدِّر الاعتقاد إن جنون حكمة كان نضج بلاد.. وكان لها سلام وعافية.. وإن ثورة الشعب مراهقة.. لحظة طيش قابلة للتدجين والتصويب.. التطهير والترشيد والمراجعة.
بعيداً عن نسق كل الديكتاتوريات.. هو يختار خاتمة خارج سياق نهايات الاستبداد.. خاتمة جديدة بفضاضتها.. بشعة بفظاعاتها.. فجائعية لمآلاتها المغايرة. نحن لا نعرف ما هيه هذه الخاتمة.. فمن يستطيع أن يضع يده على ردود فعل قاتل منفلت العقال.. إن لم يكبل بالأصفاد.
هو لا يريد نظارة شمسية.. بدلة رئاسية.. نعَّاشة مرضى.. وسجن ومحاكمة، أسوة بحسني القاهرة.
هو لا يقبل طائرة لص.. بهروب مهين في جنح ظلام.. مثل توأم حكمه ابن علي.
خاتمة معمر.. مرقده في أنبوب صرف.. توسلاته الأخيرة.. كل هذه النهائيات خارج تقدير مستبد ابتُلينا به حاكماً ومخلوعاً وجاثماً على قلب هذه اليمن.
لليمن خيار واحد الآن كي ينتصب طول ظهر هذه البلاد.. لترى ما خلف الأكمة الشوكية الراهنة، خيار تجديد دم الثورة بثورة أخرى تصوَّب المسار. ثورة ثانية تعيد خلع المخلوع وطرد الأنجال إلى أقرب لائحة اتهام وقفص محاكمة، ثورة تتوازى فيها الحظوظ من قواعد الأحزاب ضد صنمية البرامج.. خشية الشخوص.. وحتى تضاريس الشوارع الهادرة. ثورة تنجز بداياتها كي تنتصر.