(1) في القاهرة ثانية لكن هذه المرة مختلفة وناصعة وثائرة. في القاهرة مرة أخرى لكنها قاهرة مابعد الثورة. في القاهرة الساحرة، الساهرة، الماكرة، الفاتنة، العاطرة، الزاهرة، النيّرة، الخيّرة، الصابرة، الساخرة، النذرة، الثائرة.
الشوارع مختلفة ،أو هكذا تبدو لي من لحظة وصولي .الناس يمشون بهامات مرفوعة على الرغم من يقين الكثير منهم بضرورة قيام ثورة إضافية كي تُبعد عن الخارطة السياسية بقايا النظام السابق الذين مايزال بعضهم يمسك برقبة البلد. في القاهرة ثانية وقد بدت كعروس حلوة تستعد لدخول أجمل أيام حياتها بعد سنوات طوال قضتها في الأرق والسواد والأزمات وفي قبضة عصابة استطاعت النيل من شبابها فخلناها عجوزا لايمكن لها استعادة شيئا من ماضيها الكبير. (2) هنا القاهرة ثانية، وهنا تجد فارقا بين القاهرة هذا العام وبين القاهرة في العام الماضي حيث صنعت الثورة فارقا أكيدا وباهرا وتراه في وجوه الناس العابرين أمامك أو الذين تتقاطع معهم في مكان ما أو حديث عابر. هي الثورة هنا وقد أعادت للناس اعتبارهم، استعادة الكرامة الشخصية التي فُقدت خلال سنوات طويلة من الكبت السياسي والاجتماعي ،ماكان يفعله فيهم رجال الشرطة والأمن كمثال. انسحبت تلك العلاقة المشينة التي كانت قائمة بين المواطن البسيط وبين رجل الشرطة البعبع وحلت بدلا عنها علاقة من الندية وإظهار الذات التي كانت متوارية ومنسحقة تحت ضغط الهيمنة الأمنية المحمية من خلال جهاز سري بشع كان يُعطي رجل الأمن صلاحيات لاحدود لها وسلطة مفتوحة بعيدا عن أي قانون أو دستور تمنحه حق "مرمطة" أي شخص قد يتقاطع معه ولو مصادفة. ولم يكن مُستغربا أن تكون مقرات مراكز الشرطة هدفا أوليا للمواطنين البسطاء الذين قاموا بالهجوم عليها وحرق بعضها.ومهما كان هذا الفعل مستهجنا ومرفوضا من قبل البعض على اعتبار أنه فعل لا يليق ولا يتماشى مع روح الثورة،لكن هذا الفعل في حقيقة الأمر إنما يعطي شرحا أوليا لحالة الرعب والإذلال التي كانت تمثلها تلك المراكز في نفوس الناس ومن كان يعمل بداخلها. ولعل تلك التسجيلات المنتشرة على موقع "اليوتيوب" التي كانت تظهر بين وقت وأخر فداحة مايحدث بداخل تلك المراكز التي كان يبدو أنها تعمل خارج أي سلطة أو قانون وتمارس ضد الناس صنوفا من التعذيب والقهر النفسي على المواطن المصري فالداخل إلى هناك مفقود والخارج منها مولود.ولابد من الانتباه هنا أن ممارسات الإذلال تلك كانت تنهب من نفسية المواطن المصري المسكون بفكرة الفرعون الذي لايضاهيه فرد في الدنيا. وعليه لم يكن مسُتغربا أيضا أن تكون أولى الشعارات التي رُفعت بعد نجاح الثورة هو شعار " ارفع راسك انته مصري". وهو الشعار ذاته الذي لا تمر دقيقة وأنت تمشي في شوارع المدينة إلا وتراه مرفوعا ومكتوبا في كل مكان توجه إليه بصرك،على الجدران وعلى زجاج السيارات وعلى "تي شيرتات" الشباب والشابات التي طُبع عليها بخطوط وألوان زاهية. وفي المحصلة لايبدو كل هذا إلا لافتة كبيرة تقول أن من أهم المكاسب التي نجحت الثورة في تحقيقها هي إعادة المواطن المصري للثقة في نفسه وأنه مايزال على اجتراح المستحيل وقهر أي شيء أمامه مهما بدا هذا صعب المنال وعلى وجه الخصوص بعد سنوات طويلة عاشها في الإحباط والقهر والحياة مع الإموات البطئ الذي كان ممارسا عليه حتى أحاله هذا إلى كائن هلامي لايكاد يبصر خطواته في الشارع. (3) ولا يمكن هنا حال الحديث عن هذه الكرامة المستعادة عدم التعريج على حادثة صعود الشاب المصري أحمد الشحات إلى سطح العمارة التي تقيم فيها السفارة الإسرائيلية وإنزاله العلم الإسرائيلي واستبداله بالعلم المصري باعتبار هذه الحادثة إنما تتماشى مع استعادة الكرامة التي جاءت الثورة لتفعلها.وهذا بعيدا عن مقولات بعض النخبة التي اعتبرت هذا الفعل متجاوزا للأعراف الدبلوماسية وانه حركة استعراضية لاطائل منها أبدا. لكن يبدو أنه فات على بعض أولئك النخبة أن العملية برمتها ومهما بدت بلا أي جدوى على المستوى العملي لكنها قد نجحت في فعلا الكثير في نفسية المواطن المصري البسيط الذي عاش طويلا تحت واقع إذلال وجود هذه السفارة وتحت حماية الدولة نفسها.وكان يمكن ملاحظة هذا في اليوم التالي للواقعة عندما توافد الناس إلى المكان ليروا علم مصر يرفرف عاليا في تلك البناية الشاهقة ومنهم من حمل كاميرات لتسجيل الصورة ووضعها في أرشيف حياته،ونحن قد فعلنا مثلهم. (4) لكن ليس بالضرورة،مع الثورة أي ثورة أن يكون كل شيء ابيض نقيا فلا بد للصورة من شيء يعمل على تعكير صفوها.هذا بديهي بل وكان متوقعا مع وجود جماعات قد تضررت فعلا من سقوط المخلوع مبارك وعصابته. هؤلاء يمكن ملاحظتهم بسهولة وهم منتشرون ولكن بصوت منخفض أحيانا أو مرتفع أمام الموقع التي تتم فيه محاكمة الرئيس المخلوع وأبنائه. وهؤلاء بالطبع بحاجة لثورة ثانية عليهم حتى تكمل الثورة مشوارها الطويل حيث لايمكن بالعقل والمنطق أن يمر كل شيء بهدوء وكما يريد الثوّار فالعقبات كثيرة ولا يمكن القفز عليها والتهاون معها. وبطبيعة الحال لا يمكنك أن تلمس هؤلاء بمجرد وصولك إلى القاهرة بل تحتاج إلى وقت كي تتممكن مع الاستماع إليهم وعلى وجه الخصوص حدوث واقعة تجبرهم على الإعلان عن أنفسهم.وهي واقعة ستجعلك واقعا في الحيرة للوهلة الأولى وستكون بحاجة لبعض الوقت كي تمر عليها متمسكا بشكل نهائي ببهاء الثورة والشباب وقدرتهم على تعديل كفة الميزان لصالحهم. (5) لكن مع الأيام تكتشف أن شباب الثورة أكبر من كل هذا وماحدث في "جمعة تصحيح المسار" إلا دليلا على أن الثورة تعرف مصاعبها جيدا وقادرة على اكتشافها ومعالجتها والوقوف أمام أي عثرات قد تعترض سبيلها ومن أكبرها مايفعله المجلس العسكري من محاكمات عسكرية لنشطاء ومدونين وتركه عصابة مبارك كي تحاكم في محاكم مدنية وهو العامل الأبرز الذي دفع الشباب للخروج يوم الجمعة الماضية في مليونية خلت من "الإخوان" وكان هذا بالفعل واقعا في صالح شباب الثورة الذين كانوا بحاجة لتلمس من يلعب في محيط الثورة ومن يعيش في داخلها ومن أجلها بعيدا عن أي انتهازية أو ابتزاز. (6) "يا صاحبي إني حزين طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح وخرجت من جوف المدينة اطلب الرزق المتاح وغمست فى ماء القناعة خبز أيامي الكفاف ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش فشربت شايا في الطريق ورتقت نعلى ولعبت بالنرد الموزع بين كفى والصديق قل ساعة أو ساعتين قل عشرة أو عشرتين". ... في كل مرة أكون فيها في القاهرة كنت أبقى مرددا على طول هذه القصيدة لصلاح عبد الصبور. حيث كان الجو فعلا يبعث على الحزن وعلى وجه الخصوص وقت الصباح عندما تخرج إلى الشوارع وترى لوجوه الناس المُتعبة والتي تخرج في هذا التوقيت كل يوم للبحث عن رزق أطفالها الصعب. لكن تغير الأمر هذه المرة. لم يحدث أن تذكرت هذا الشعر الحزين ولا حتى مرة واحدة. وربما أتذكره هنا للمرة الأولى على سبيل التمثيل عن الفارق بين حالتين والتعبير بأقصر الطرق عن الفارق بين قاهرتين. الطريق طويلة،طريق الثورة،لكن الشباب في الميدان وينزلونه في أي وقت شاؤوا. الميدان لهم ولا شيء بإمكانهم منعهم عنه وعن السير في طريق تحقيق كامل أهداف الثورة واسترداد حق الشهداء الذين لايمكن نسيانهم بأي حال من الأحوال. الثورة انطلقت ..ولايمكن لشيء أو لجماعة أو عصابة إيقاف تقدمها.