لا شك أن الخوض في هكذا موضوع يتطلب أولاً التذكير برمزيتها تجنباً للتسطيح وتجنباً للوقوع بفخ الحماسة والإرتجال وتفادياً للغرق في الاسترسال الأدبي والإنشائي أيضاً والتي تتمثل في التالي : أولاً رمزية فكرية : إن فكرة ( إسقاط نظام ) لم تكن مُجرد إبتكار عشوائي ومُجازفة غوغائية تفتقر للوعي , بل له دلالات معرفية عميقة إذا ما تم التوصيف الدقيق والتعريف بحقيقته , وهل سوى ذلك النظام الشمولي ( التوليتاري ) بين خاصرتين عريضة بمعناه الرهيب والإقصائي ومعناه المُدمر بُنى الفرد وقواه الفاعلة ؟ هي بحد ذاتها سقف الوعي العالي والمتأخر جداً بالنسبة لهذه الشعوب ودلالة ساطعة على أن حُقبة الفردية وظلاميتها السياسية لفظت أنفاسها الأخيرة لمجرد رفض العقل الجماعي وتنديده العلني في الشوارع إطلاق الوعي الباطن وتحريره من سلاسل الخوف والعقاب الأمني , والغموض والرمادية التي خضع لها منذ عقود وهي نقطة التحول نحو مُستقبل الدولة والمواطنة والحقوق والتي اعتبرت في حُكم الحقبة القديمة من الطابوهات والمحظورات وظلت حكراً على الحاكم وأقرانه وجهاله ومادحوه ! ثانياً رمزية تأريخية : التأريخ في هذه المنطقة أثبت أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال استمراره تحت مأزق حاد وصل به لإنسداد حضاري ظهر واضحاً وجلياً في ذلك الشرخ الفاضح بين الحداثة في ذروتها لدى مُجتمعات الدولة والعقد الاجتماعي وبين نُظم الاستبداد والحٌكم في أطار كوارثه والتهميش والإقصاء ما دفعها لأخطاء فادحة نجم عنها شلل تام في البُنى المجتمعية وضاعفت حصصها من الكوارث ونسفت قُدرات الأفراد نظراً للتغيب وعطلت دينامو الصيرورة واستنفذت جميع قُدراتها على خلق المُبررات , ما جعلها تشهد اليوم مراحلها الأخيرة من هُنا تم ذلك الانقلاب السريع بسلاسة مؤكداً في الوقت ذاته على أنه هدفاً تأريخياً كان لابد منه ! ثالثاً : رمزية وجودية : إن مفهوم الحرية وارد وشرط لا بنبغي فقط أن نُذكر به الآن على اعتبارات طوباوية ومعايير تم استنفاذها مع تقادم التعسف لدى هذه النُظم بل هو النسق الاجتماعي الكامل والمُجهز للاستقلال والالتزام وجودياً وسلوكياً نحو مبادئ الحق والعدالة والكرامة الإنسانية ولعل سارتر كان ينظر من هذه الزاوية حين قال (محكوم على الإنسان أن يكون حراً، لأنه ما إن يُلقَى به في هذا العالم حتى يكون مسئولا عن كل ما يفعله. ) ولأجل ذلك خاضت المُجتمعات الغربية أشرس تجاربها ومرت بعصورها النازفة بين السجال والحقائق والتيارات , لتٌنتج في الأخير مفهوم الدولة الحديثة , بمعنى دولة العقد الإجتماعي , على أنه الخيار المُتاح والمثالي الوحيد للتعايش بشروط الأمن والسلم والحقوق بعيداً عن احتراب الدولة ضد معارضيها حين تكون الدولة فكرة للفرد الطاغية وتحت حذاءه المُستعلي , واحتراب المواطن ضد المواطن والقيم فيما بينها على شكل ذلك الصدام العنيف يُنتج مراراً حقائق مُهشمة وإنسان فاقد لكل المعايير ! لنخرج الآن قليلاً من الرمزي ولنتجه نحو الواقع وننظر بنفس العمق لما قد أنجزته هذه الثورات في غضون شهور قليلة , وكيف أنها فضت ذلك الإنحباس المعقد في علاقة النظام بالمواطن إذ ما تم النظر إليها آنفاً والتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها كانت مفقودة ومعدومة بكافة أوجهها وأشكالها ' لتغدو اليوم علاقة وطيدة تتأثر بحراك الشوارع وتدخل في تفاصيل الواقع اليومي وتمضي في منحى جديد يظهر هرميتها المقلوبة إيجاباً وعن السابق حيث أن السلطة الفوقية لم تُعد سلطة النظام (الفرد ) بل سلطة الشعب وهو المعيار الموضوعي لفرض كافة المُتغيرات , آخذاً شكل هذه التظاهرة الشعبية وهُتافاتها والتجمهر كلما دعت الضرورة لذلك . وهذا اليوم يُعد من أروع المكاسب والتي كنا نعتقدها مُجرد أحلام شعرية . حسمه الشعب لصالحه في انتظار استثماره وتوجيهه نحو الأهداف المذكورة آنفاً . حتى وإن تم عرقلتها أو التآمر ضدها كما تفعل اليوم بعض قوى الرجعية الظلامية وكما هو منطقي جداً أن تحشد لها كافة قواها وجنونها محاولة إجهاضها بشتى الوسائل . إلا أنها لا محالة هي التي تسود في الأخير , وللتذكير أحياناً لعل النموذج الفرنسي هو أرقى مثال أخذ ذلك المد العُنفي بعد شرارة الثورة وأستمر لعقود دامياً ونازفاً حتى جاء نابليون وأنقذ معه فكرة الجمهورية ومبادئها التي أصبحت بفعل نجاعتها مؤسسة رائدة لكل أنصار القيم , لننظر إيضاً كيف أنها استطاعت بفترة وجيزة تقليص الرعب لدى أجهزة الدولة من مباحث ومُخابرات وماكينات القمع بتعددها حيث كان مُجرد ذكر رجل مباحث عربي يعني استحضار (هاديس) في ميثولوجيا الإغريق بكل طاقاته المهولة على الرعب والاشمئزاز والغثيان ! في المُقابل تعززت قيمة الفرد وثقته بذاته كقوة فاعلة تُدير مطالبها وتُعيد إنتاجها من جديد . أيضاً بروز الشباب في الوسط كمٌفاعل حيوي مؤثر يدل على أنها بدايات سقوط الوصاية عنه , وهذا مكسب جوهري بالغ الأهمية ينبغي التذكير به مراراً . مثل ما ينبغي التذكير بأنه من المُستحيل أن تولد ثورة ويولد جيلها في آن !