كل المؤشرات تتجه إلى أن مجلس الأمن سيذهب لإصدار قرار بالإجماع لتبني المبادرة الخليجية كخطة ملائمة لنقل السلطة في اليمن. قرار من هذا النوع وكما كتبت في مقال سابق هو كل ما نحتاجه للمرحلة الراهنة، فالقرار من القوة السياسية ما يعطي الخطة الخليجية صفة «الإلزام»، وبموجبه يمكن إصدار قرارات أخرى تتبنى عقوبات على الطرف الذي يعرقل تنفيذها، وهو الطرف الذي يمتنع عن التوقيع على المبادرة حتى الآن. مسودة «مشروع القرار البريطاني» الذي وزع على الدول الأعضاء ال15 الجمعة تبدو مشجعة في الخصوص، وهي تتضمن أفكاراً سياسية وحقوقية نجد أنها مناسبة كلغة ل«قرار أول» يصدر عن المجلس. فسياسياً أكد المشروع على المبادرة الخليجية كخطة ملائمة لنقل السلطة، ودعا الرئيس أو من ينوب عنه إلى التوقيع الفوري عليها دون أي شروط مسبقة، كما جاء في الفقرة «5» «يدعو المجلس رئيس اليمن، وأولئك المفوضين أو المخولين بالتصرف نيابة عنه، للتوقيع الفوري وإحداث انتقال سياسي على أساس مبادرة مجلس التعاون الخليجي، لما من شأنه إحداث انتقال سلمي للسلطة بدون شروط مسبقة». وفي الشأن الحقوقي أكد على مبادئ مهمة «لمحاكمة المتسببين في قتل المتظاهرين السلميين وتقديمهم للمحاكمة مع عدم منخهم أي حصانة بما يكفل المحاسبة الكاملة» حسب لغة القرار، التي قالت إن المجلس «يذكر الحكومة اليمنية بمسؤولياتها الرئيسية في حماية شعبها» كما أكد على حق التظاهر السلمي.
ومع أن القرار جاء بناء على قرار مجلس حقوق الإنسان الذي حمل الحكومة مسؤولية تلك الإجراءات القانونية إضافة إلى إجراءات أخرى، فقد أكد في الفقرة «6» على «أن تضمن بأن تمتثل إجراءاتها بالتزامات قابلة للتطبيق بموجب القانون الإنساني الدولي وقوانين حقوق الإنسان». إضافة إلى السماح بحق التظاهر السلمي وحرية التعبير، واتخاذ إجراءات عملية لإنهاء الهجمات ضد المدنيين والأهداف المدنية من قبل قوات الأمن. غير أن المشروع طالب كذلك في الفقرة «9» من الأمين العام ومندوبه حث السلطات على تطبيق الفقرات «3، 4،5، 6» التي تخصها سياسياًً في الفقرة «5» المعنية بالتوقيع، والفقرات الأخرى المتعلقة بالمحاكمات وحق التظاهر، والكف الفوري عن استهداف المتظاهرين. كما طالب الأمين العام في الفقرة العاشرة: بعمل «تقرير حول تنفيذ هذه القرار خلال 15 يوماً من تبنيه، وكل 30 يوماً بعد ذلك»، ونوع تلك التقريرات التي سيرفعها الأمين العام للمجلس عن التزام السلطة بالتنفيذ، من التزام أو عدمه، سيبنى عليها قرارات أخرى قد تكون أكثر شدة، لما عرف عن إجراءات المجلس التي تتخذ قرارات تدريجية.
*** في حقيقة الأمر لا أدري على ماذا بات يراهن صالح، فثمة إجماع إقليمي ودولي يبدو واضحاً، والاحتمال الأكبر أن مجلس الأمن سيجمع على مشروع القرار البريطاني. ففضلاً عن المواقف الأوروبية والأمريكية الصريحة الداعمة للقرار، أتت المواقف الروسية والصينية غير بعيدة أيضاً. فروسيا التي كانت قد استخدمت «فيتو» مع الصين ضد قرار يفرض عقوبات على النظام السوري، الأسبوع قبل الماضي، قال ممثلها الدائم في مجلس الأمن الخميس إن بلاده باتت مقتنعة باتخاذ قرار ملزم فيما يخص اليمن، فيما قال سفير الصين لدى بلادنا: إن موقف بلاده لن يختلف عن المواقف الدولية بالخصوص. والموقفان الروسي والصيني يبدوان طبيعيين هنا، فاليمن، دولة «طرفية» والتغيير فيها وفقاً للخطة الخليجية لن يغير شيئاً من معادلة الجغرافيا السياسية في المنطقة، بعكس سوريا فهي من دول «القلب» العربي التي قد يأتي التغيير فيها لصالح القوى الغربية على حساب روسيا والصين. كما أن تشارك الدولتين مع القوى الإقليمية في الخليج، والدولية في أوروبا وأمريكا في الحرص على يمن مستقر وآمن توفره الخطة الخليجية، ولعدم ذهابه للعنف والفوضى كمصلحة «جيوسياسية» للأمن والسلم العالمي هو أمر طبيعي أن يعني الصين وروسيا أيضاً. وهو الأمر الذي تنطلق منه الدول الخليجية أيضا في الحرص على تنفيذ خطتها لنقل السلطة، في الشكل النهائي لها، قبل رفض صالح التوقيع عليها في مايو الماضي، وقد عاد وزير الخارجية أبو بكر القربي نهاية الأسبوع المنصرم من الإمارات خالي الوفاض في الجولة التي أشير إلى أنها كانت تستهدف إقناع دول مجلس التعاون بتعديلات جديدة على مبادرتها، توفر لصالح البقاء حتى الانتهاء من الانتخابات الرئاسة، التي تنص المبادرة صراحة على نقل سلطاته لنائبه، وتقديم استقالته قبل إجرائها.
فقد جاء الرد صريحاً من الكويت التي سرب أنها اعتذرت عن استقبال القربي على لسان نائب رئيس وزرائها وزير الخارجية محمد الصباح السالم الصباح، الذي قال: «مبادرتنا واضحة في الخصوص، وعلى صالح التنحي فورا». كما سرب أن المملكة السعودية اعتذرت عن استقبال القربي أيضا، ليجري صالح اتصالاً هاتفياً الاثنين مع الملك عبدالله، لم تنشر تفاصيله. ولا أستبعد أن تتخذ المملكة ذلك الموقف. فقد نشرت وكالة رويترز تصريحاً مقتضباً لمستشار الحكومة السعودية الأسبوع الماضي «أن صالح وعد الملك عبدالله بالعودة لتنفيذ المبادرة الخليجية، وأن عليه الوفاء بوعده». ربما هناك من تراوده الشكوك بخصوص موقف المملكة، وقد يكون محقاً في أنها لا تدعم الثورة غير أنه يمكن القول أنها لا تدعم صالح أيضاً، وأنها لا تختلف عن القوى الدولية الأخرى في النظر للخطة الخليجية كمخرج مناسب للخروج باليمن من شبح الحرب والفوضى الذي يهددها بالدرجة الأولى قبل غيرها.. *** في الأثناء كان ثمة إرباك ملحوظ لدى السلطة من التحركات في أروقة مجلس الأمن، فقد نشرت وكالة سبأ الرسمية في البداية خبراً عن مصدر حكومي يقول إن التوقيع على المبادرة الخليجية مكفول في التفويض الرئاسي للنائب عبد ربه منصور هادي، ثم أعقبه نشر تصريحات رئاسية تهاجم المواقف الأمريكية والأروبية وتتهمها بالانحياز وعدم فهم مجريات الأمور في البلد، وبعده تصريح آخر لمصدر حكومي يحذر من إصدار قرار قال إنه قد يعقد الأزمة ولا يساهم في الحل. كما عمد النظام إلى بث تسريبات عن إجراءات للتخلص من المبادرة الخليجية، على شكل تسريب يشير لقيام صالح بالدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة بشكل منفرد، في البداية، وتسريب آخر يشير لقيام صالح بتشكيل مجلس عسكري يسلمه دفة الحكم، يعطل الدستور ويحرم المعارضة من المشاركة في الترتيب للمرحلة الانتقالية بعكس ما تنص عليه الخطة الخليجية. والتسريبان لا يشبهان غير دعابة «سمجة» لا أظن المزاج المحلي أوالإقليمي والدولي بمكان يسمح له بتقبلهما، كما أنهما ليسا بالحل المناسب للنظام، فالدعوة لانتخابات منفردة لم يتمكن منها الحاكم في 2009، ومن الاستحالة التمكن منها اليوم في مثل هذه الظروف والثورة الراهنة. كما أن إجراء مثل «تشكيل مجلس عسكري» ليس بالإجراء الفعال وسط ظروف الثورة وانقسام الجيش، ولن يغير من حقيقة الواقع على الأرض على الإطلاق. ولن يشبه غير إجراء إعلان الطوارئ الذي أعقب مجزرة الكرامة في مارس الماضي، الذي ذهب كما أن شيئاً لم يكن. لا يشبه الأمر إلا تهديداً فاشلاً، إن قصد به الضغط والتهديد، ولا أظنه يتجاوز ذلك، وعلى فرض أنه كان جاداً، لن يكن غير هروب إلى حافة الهاوية، كما أنه سيعد بمثابة نزع ورقة التوت الأخيرة التي يغطي بها النظام سوءته، ممثلة في الدستور، كون تشكيل مجلس عسكري سيعني بالضرورة حل الدستور.. وبحله يكون النظام بمجلسه العسكري على السواء مع أطراف النزاع الأخرى التي يصفها بغير الشرعية. كما أن اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام (المكتب السياسي) عقدت اجتماعين الخميس برئاسة هادي والسبت برئاسة صالح نفسه قالت إنهما كرسا للخطوات التي يمكن التعاطي بها مع المستجدات وقرار مجلس الأمن المحتمل، إلا أن الخبر الرسمي لم يكشف عن نوعية تلك الإجراءات. غير أن الحقائق على الأرض لا تشير إلى أن صالح سيكون جادا في الالتزام بتنفيذ القرار وفق الخطة الخليجية، ولا يزال يعمد إلى مزيد من المراوغات المملة التي سئمها الداخل والخارج على السواء. ثمة تسريبات أخرى ينقلها مقربون عنه أنه لن يستسلم بسهولة، ويلمحون إلى قيامه الآن بالعمل على خلط بعض الأوراق على صعيد بعض القضايا كالحوثي والجنوب والقاعدة والقبائل، لتفجير البلد، حال أجبر على الخروج من السلطة. و لا أدري إلى أي مدى ستبلغ حظوظه في هذه الأوراق التي استخدمت بالفعل في سنوات حكمه الطويلة أو الأخيرة، فالحوثيون برجماتيون وقد يستفيدون من أي تقارب قد يريده صالح منهم، غير أنهم وكما هو واضح من أداءاتهم السياسية لن ينحازوا إليه بالمطلق، ولن يغادروا منطقة الوسط التي يفضلونها. كما لا أظن أن لديه من الإغراءات الكافية لبعض الأطراف الجنوبية التي لا تقبل بغير الانفصال بديلاً، فيما ورقة القاعدة ورقة مستنفدة بالفعل، ولا أظنه يملك الثقل الذي يملكه معارضوه في ورقة القبائل. ما يمكن قوله إن الرجل حاقد بالفعل، وقد يرغب في نهاية مدمرة للبلد كتلك، حال خروجه، غير أنه لا يمكن التأكد من أنه قد ينجح في ذلك أو لا، .. كل الاحتمالات واردة.
*** عني أفضل الانتظار، لنرى إن كان سيقبل التوقيع على المبادرة الخليجية، حال صدور قرار مجلس الأمن، و أظنه أمراً مستبعداً حتى الآن، ليبقى السؤال حول مدى سماحه للذهاب في تلك الإجراءات من خلال توقيع النائب وقد فتح مشروع القرار باباً لتتم على ذلك النحو. ربما الإجابة ستكون عند عبد ربه فهو وحده من سيعلم إن كان الأمر متاحاً أو لا، ليتشجع في المضي في تنفيذ خطة نقل السلطة عن طريقه أو لا.. فلنترقب، ولننتظر نوع الإجراءات التي ستتخذها القوى الإقليمية والدولية منفرداً، أو في مجلس الأمن حال ذلك، وقبل كل شيء فلننتظر «القرار الأول» المزمع صدوره خلال الأيام القادمة أولاَ. أظننا الآن أمام سباقين أحدهما محل إجماع وطني وإقليمي ودولي يسعى للخروج بيمن آمن ومستقر، وأخرى أمنية أخيرة لشمشون يريد أن يترك البلد يباباً خلفه.، وأجد من الملح الآن على القوى الداخلية والخارجية التي تتشارك في الخيار الأول إسراع الخطى والضغوط لتصل أولاً.