تبدأ الحكاية على صورة رياح، ألقت عكازها ولملمت كل ما بدده الوجع، ثم نفثت في وجه الليل كسلها المتخم ببركات الحاكم، الذي سمع وحسب عن الطاقة التي تولدها الرياح، لكنه لم يعرف القوة التي تولد الرياح، ليست العروش وحدها من يساورها هاجس الرهبة أمام هذا المد المفاجئ المولع بكل شيء، جاعلاً كل ما في طريقه من الكائنات يتحسس ما يمتلكه من كروت البقاء الأطول، يسابق الوقت بترميم ملامحه أملاً في مقاومة الإعصار، وهنا لا شيء بنظره أجدى من الإصلاحات ليغازل بها الوقت ويكسب بها بعض الأنفاس، لكن لم يعد في الإصلاحات حيلة، بعد أن طلعت الشمس من مغربها، شمس الحرية التي لا تؤمن بتحولات الوقت الضائع، ولا يعجبها مكرمة الإمهال، ولا تواسي حتى من رمتهم خارج القداسة، إذ لو كان بالإمكان ذلك لما أحرقت أكوام الأوراق الخريفية التي تستخدمها الأنظمة في كسب التعاطف، كدعوى احترام رغبة التغيير والوعد بتلبية مطالب الشعوب، لكن ذلك كله لم يشفع لعروشها أن لا تذروها الرياح، وحتى تخويفها المجتمع الدولي من الغد الآتي على ظهر الثورة بصورة لحية ومحراب، أصبح إنذاراً معطوباً تلقيه الرياح على قارعة طريقها. في اليمن كمثال واضح، تبدو سطوة الرياح الناعمة في أوسع نطاق، بدأت بنظام الحكم، الذي يكرر عجزه بلا ملل، ويقف مرتبكاً أمام حتمية لا بد منها، ليسمها إن شاء أزمة، لكن الأزمة تنفرج بحزمة إصلاحات، أو فليسمها فوضى فإن للفوضى وجهاً بريئاً وخلاقاً، أو فليسمها خروجاً على الحاكم، فالخروج على الحاكم ليس قبل خروجه هو عن قيم المواطنة ومبدأ المسؤولية. كل هذه المسميات قربت بجوارها في مهب الريح أشياء كثيرة، تناولتها بمسحة خفيفة أحياناً واقتلاع جذري أحياناً أخرى، وتعرت أمامها عدة واجهات مستعارة. إذ ليس بمقدورها أن تصمد أمام ممارسة الوعي مهنة الاكتشاف. على صعيد القناعات المتوارثة، ظهر للعيان بفعل الثورة أنها سهلة التحول إلى صورة أخرى، سواء ما يتعلق منها بإيحاءات النظام المتكررة عن خصوصية الوضع في اليمن وحساسيته، وأن التغيير فيه يعرضه لمخالب شركاء متشاكسين، ووثبة الغول النائم تحت سطوة وبسالة الرئيس صالح النابعة عن حسه الوطني. أو ما يتعلق منها بصورة اليمني المرسومة ظلماً بتخلفه وفوضاه وجهله واكتفائه بالقليل من مؤشرات الحياة، وعدم فاعليته، ليبدو الإنسان اليمني حضارياً بطبعه لا يزال يحتفظ بكرامته وإبائه ويتمسك بحقه، فضلاً عن تميزه من خلال تمثيله سفيراً حسناً للإبداع اليمني بكافة صوره.وبدت القبيلة عبارة عن منظومة تنحاز للوطن وحسب، وتؤمن بمبدأي الوعي والسلم وتدلل عليهما بجدارة. باختصار.. كل ما رسخه النظام في وعي المواطن اليمني والرأي الخارجي من زيف يصب في صالح بقاء صالح، تعرَّض للمحو بفعل عوامل التعرية الشبابية. مروراً بكشف الوجه الخشن لكثير من القوى التي باركها النظام في خاصرة الوطن ليكون التغيير آخر شيء يفكر به المواطن وقدمت نفسها كفئة مضطهدة تتعرض لمحو مذهبي، وهنا أشير إلى جماعة التمرد الحوثي كنموذج، والتي حاولت الهروب إلى خارج إطارها، بمشاركتها الثورية حتى وجدت نفسها في مسار تذوب فيه نزعة العنف أو التعصب الطائفي، فارتدَّت تعادي الثورة باستحضار الحقد المتجذر تجاه بعض فصائلها محاولةً استباق ولادة اليمن الجديد بتوسعها المسلح وأعمالها الإجرامية بحجة الدفاع عن وجودها، باعتبار أن ذلك سيضمن لها امتداداً جغرافياً قبل أن يفوّت عليها يمن ما بعد الثورة فرصة التوسع. وهنا وقعت في خطأ قلب الطاولة في وجهها. كما أن غيرها من القوى تعرضت لفكفكة الغموض الملتف حولها، وعرف اليمنيون أن أيادي التخريب كما يسميها التي تهدأ عندما ينشغل النظام بتأمين وضعه، أو بتفعيل أياد أخرى هي علامة الصداقة اللدودة بينها وبين القائد الأعلى للقوات المختلفة. وفي سياق هذا التسارع بدأت مؤسسات الدولة تتعرض لحملة تطهير من رموزها الفاسدة كخطوة هامة في بناء يمن جديد، وبات في حكم المؤكد أيضاً في طريق الطوفان أن كل شيء قابل لمسحة التغيير والتجديد بما في ذلك تجاعيد الرؤى وأنماط التفكير، فانتاب كل القيادات والمرجعيات قلق عارم حتى لكأن الريح تحتها (بحسب المتنبي) وامتد هذا القلق إلى خانة الفتوى التي احتفظت لعقود بميزة الانفراد رامية وراءها ثراء ومرونة وسعة الفكر والفقه الإسلاميين، وهكذا في كل شيء حتى أصبح التغيير موضة تقاوم فكرة التحنيط، وبدا أن بإمكان الربيع الواحد أن يبدد أكثر من ثلاثين خريفاً. إذاً التدمير وحده يصنع الجمال، ويكشف عن مفاتن وطن جديد، إنه الدمار الذي لا يتولد عن نزق القوة ولا من طيش الانتقام، لكنه الدمار النبيل. الثورة تدمر كل شيء لتبني كل شيء.