استوقفني وصف أفلاطون - ذلك الفيلسوف اليوناني الشهير الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد - للطاغية، وأنا أقرأ الكتاب البديع عن الطاغية الذي ألفه الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ونشرته سلسلة عالم المعرفة (العدد 183). ولما كان هذا الوصف القادم من عمق التاريخ للطاغية صادراً عن فيلسوف عظيم كأفلاطون، وجدت نفسي مندفعاً أن أشرك قراء «المصدر أونلاين» بتلك المقاطع التي جاءت في هذا الكتاب دون أدنى إضافة أو تعديل لعلنا نعتبر ونحول دون طغاة جدد في حياتنا. إن ظهور الطاغية كما يرى أفلاطون مرهون بوجود ضرب من الفوضى أو التسيب في الدولة، بحيث يكون هو «المنقذ» الذي يعيد النظام والأمن والاستقرار إلى البلاد حتى يشعر كل مواطن أنه آمن على نفسه وأهله وماله..الخ. والصورة التي رسمها أفلاطون للطاغية مأخوذة من سيرة يونسيوس الأول في سيراقوصه، حيث جاء هذا الطاغية نتيجة للاضطرابات التي حدثت في الجزيرة وأدت إلى ما يشبه الفوضى فيقول أفلاطون من واقع هذا التجربة: «يتولى الطاغية الحكم، في الأصل، لكي ينقذ البلاد من حالة الفوضى التي تتردى فيها، ويبدأ في الأيام الأولى من حكمه في التقرب من الناس. في مبدأ الأمر لا يلقى كل من يصادفه إلا بالابتسام والتحية، ويستنكر كل طغيان، ويجزل الوعود الخاصة والعامة». وفي الوقت ذاته يبدأ في تكوين حرس قوي حوله بحجة «المحافظة على مطالب الشعب ومراعاة لمصلحة الشعب ذاته». وبعد تكوين الحرس الجيد الذي يلتف حوله لحمايته، يبدأ في تأمين وجوده في الداخل والخارج، فبالنسبة لأعداء البلاد في الخارج فإنه يتفاوض مع بعضهم، ويقاتل البعض الآخر حتى يتخلص منهم بشتى الطرق. ثم يتجه إلى الداخل فيتخلص من المناوئين له: «وعندما يأمن هذا الجانب فإنه لا يكف أولاً عن إشعال الحرب تلو الأخرى حتى يشعر الشعب بحاجته إلى قائد. وكذلك حتى يضطر المواطنون الذين أفقرتهم الضرائب إلى الانشغال بكسب رزقهم بدلاً من أن يتآمروا عليه». وعندما يجد «زعيم الشعب» نفسه سيداً مطاعاً، فإنه لا يجد غضاضة في سفك دماء أهله، فهو يسوقهم إلى المحاكمة بتهم باطلة، وهي طريقة مألوفة لدى هذه الفئة من الناس، «إنه يحقر القوانين المكتوبة وغير المكتوبة، ولما لم يكن شيء يقف في وجه الطاغية المستبد فإنه يصبح عبد الجنون أو ينقلب حكمه إلى كارثة. فهو يقتل المواطنين ظلماً وعدواناً، ويذوق بلسان وفم دنسين دماء أهله ويشردهم.. عندئذ يصبح هذا الرجل طاغية ويتحول إلى ذئب..». إن ظلم الطاغية لا يعرف تفرقة بين المواطنين، وليس للطاغية «صديق»، فهو لا يمانع في الغدر بالأصدقاء أو المعاونين إذا ما اشبته فيهم: «فهو إذا وجد من بين أولئك الذين أعانوه على تولي الحكم، والذين أصبحوا من ذوي السلطان والنفوذ فئة من الشجعان الذين يعبرون عن آرائهم بصراحة أمامه وفيما بينهم وينتقدون ما يقوم به من تصرفات.. فإن الطاغية لا بد أن يقضي على كل هؤلاء إن شاء أن يظل صاحب سلطان بحيث لا يترك في النهاية شخصاً ذا قيم سواء بين أصدقائه أو أعدائه». وإذن فلابد له من «إبصار حاد» لكي يرى كل من تتوافر لديه الشجاعة أو عزة النفس أو الذكاء أو الثروة. وهكذا شاء طالعه أن يظل، طوعاً أو كرهاً، في حرب دائمة مع الجميع، وأن ينصب لهم الشراك، حتى يطهر الدولة منهم! ويا لها من طريقة في التطهير! إنها عكس طريقة الأطباء، فهؤلاء يخلصون الجسم مما هو ضار فيه ويتركون ما هو نافع، أما هو فيفعل العكس!، ذلك أن لا يستأصل إلا المفيد والنافع، لأنه لا يقضي إلا على الشرفاء والمفكرين والشجعان والمخلصين الذين يرفضون نفاقه. لكن تصرفات الطاغية، على هذا النحو، تثير في نفوس مواطنيه المزيد من الكراهية، فيزداد بدوره حاجة إلى حرس أكبر عدداً وأشد إخلاصاً: «وهم سيتقاطرون عليه من تلقاء أنفسهم بأعداد كبيرة إذا ما دفع لهم أجوراً كافية...». ولكن المعجبين به لن يتجاوزوا أولئك الرفاق المنتفعين الذين يجتمعون به ويدافعون عنه، لأنهم يعلمون أن سقوطه يعنى سقوطهم أيضاً» أما المواطنون الشرفاء «فإنهم يمقتونه وينفرون منه..». لكن الرفاق المنتفعين، أو بطانة الطاغية، ليست مجموعة من الأصدقاء أو «رفاق السلاح»! بل قد يكون منهم الكتاب والشعراء الذين يدفع لهم الطاغية بسخاء، لأنه يعلم أن شهرته لن تكون إلا عن طريقهم. ولهذا فسوف نجد من الشعراء والكتاب من يمتدح الطاغية ويغدق الطغاة الكثير من الأموال على الشعراء والكتاب والأنصار والأغوات، كذلك يعدون «المكافآت والجوائز» والمهرجانات...الخ. ولا شك أنه لو كان في الدولة كنوز مقدسة، فسوف ينهبها كما ينهب أموال الضحايا من المواطنين. ومن الواضح أنه يعيش هو ورفاقه وحاشيته وبطانته، وعشيقاته من ثروة أبيه - أي الشعب. وهكذا نجد أن الشعب الذي أنجب الطاغية يجد نفسه مضطراً لإطعامه هو وحاشيته! غير أن أفلاطون يتنبأ بأن الشعب سوف يدرك مدى الكارثة التي جلبها على نفسه يوم ساند الطاغية وارتضى حكمه: يقول «إن الشعب سيدرك بحق مدى الحماقة التي ارتكبها حين أنجب مثل هذا المخلوق ورعاه ورباه، حتى أصبح هذا المخلوق أقوى من أن يستطيع الشعب أن يطرده!». وإذا كان أفلاطون يشبه الشعب بالأب الذي أنجب ابناً عاقاً هو الطاغية، فإنه يتساءل: « ما الذي يحدث إذا غضب الشعب، وقال إنه لا يليق بابن زهرة العمر أن يعيش عالة على أبيه، وأن الابن هو الذي ينبغي أن يعول أباه، وأن هذا الأب لم ينجبه ولم يربه ليرى نفسه عبداً لعبيد ابنه حتى يشب أو لكي يظل يطعمه هو وعبيده، وتلك الحثالة التي تحيط به، لكي يخلصه عندما يتولى قيادته من الأغنياء؟ ولنفرض أن الشعب قد طلب منه مغادرة الدولة هو وحاشيته، مثلما يطرد الأب من بيته ابناً عاقاً، ومعه رفاقه الأشرار، فما الذي يحدث عندئذ؟!. ويجيب أن الشعب سيدرك مدى الحماقة التي ارتكبها حين أنجب هذا المخلوق!. وينتهي أفلاطون إلى أن الطاغية لديه من الوقاحة ما يجعله يجرؤ على الوقوف في وجه أبيه (الشعب) وضربه إن لم يستسلم لأوامره: «فالطاغي قاتل لأبيه، وهو بشر عاق لا يرحم شيخوخة أبيه، وتلك هي حقيقة الطغيان الذي لا يختلف عليه اثنان».