لم نكن نقصد، منذ الطلعة الأولى لأروع طليعة من شباب اليمن، أن يؤول المشهد برمّته إلى عبد ربه منصور ومحمد سالم باسندوة. في الواقع: لم يحدث ذلك. وحتى هذين السبعينيّين يبدوان منهكين كقرصي خبز، وكخيمتين في فلاة. لا داعي لهذا التشبيه، لكنّ «شيخي الجنوب» يبدوان كذلك، فعلاً.. صيرورة التاريخ، من وجهة نظر جدلية تاريخية، لا تفضي إلى حقائق ووقائع نهائية. بل إلى ساقية من الوقائع والحقائق التي تغير نفسها كل عشر دقائق. كان هيروقليطس يقول: لا يمكنك أن تستحم في النهر ذاته مرّتين. حتى ماركس يقول الأمر نفسه. وربما لا يقول ما هو أخطر من ذلك على مستوى التفكير التاريخي: إن الحقائق التاريخية ليست حقائق سوى لوقت قصير، ريثما تنشأ حقائق أخرى، إلى ما لانهاية.
الثورة مثل عين الماء إن «هتنتها اهتتنت» (طلبت هتونها، ماءها) وإن تركتها اندثرت. كان أبو مليكة الحطيئة يستخدم هذه الجملة وهو يتحدث عن الشعر. لكنها تصدق أكثر عندما نتحدث عن الثورة. وما هو الشعر سوى الثورة. بل إن الشعر يصبو في تجلياته الأخيرة إلى أن يكون ثورة مكتملة. أي: لا تنتهي. وكان بابلو نيرود، الشاعر والسياسي واسع الشهرة، يوصف بأنه الشاعر الذي يثور على نمطه كل صباح. فقد كان الشعر- بوصفه ثورةً- يعني لنيرودا أن يثور على نمطه مع طلوع الشمس الجديدة. وهكذا هي الحياة برمّتها: شلال، وليست دائرة. وأبداً لن تكون دائرة، لذا لن يعود نظام المسخ صالح، فالحياة شلال ليس له قرار. كان الشافعي يضرب للثورة مثلاً بالماء: إن سالَ طابَ، وإن لم يجرِ لم يطبِ.
فالثورة متتالية عملياتية لا تصل إلى هضبة. ولا تسكن، مثل الماء الذي ينبغي عليه أن يظل دائماً في الجريان وإلا خرج عن الفاعلية. كالنهر، نهر هيروقليطس، الذي ما إن تستحم فيه مرة واحدة حتى يكون قد تغير كلياً وتبدّل. هذا الجيل الجديد الذي افتتح حياته الجديدة بالثورة، سيستمر على هذه المحجة البيضاء طيلة حياته. لكن .. كأن هناك من كان يترقب أن تنتهي الثورة على طريقة الحب الشرقي «بختامها يتزوج الأبطالُ». كان نزار قباني يسخر من الرواية الشرقية للحب، تلك التي ترى في الحبيب مشروع «كوشة». الكوشة نفسها التي انتظرها كثيرون من الثوار ومنظرو الثورة: أن تلبس الثورة الفستان الأبيض، نهاية أسبوع التعب والتحضير والصراخ، وتجلس على الكوشة. وربما على طريقة الفنان محمود ياسين تهمس الثورة وهي على الكوشة في أذن عريسها مطمئنةً له: الرصاصة لا تزال في جيبي. ثم تشغّل أغنية محمد العسيلي: يللا نعيش في تبات ونبات. قد يبدو هذا الوعي بالثورة كاريكاتورياً، ولا أتصور سوى أن شباب الثورة، الشباب الجديد، لا يخضعون فهومهم لمثل هذا المستوى من التسطيح. ليس المهم، فيما أتصور، أن نتجادل حول هل نجحت الثورة أم لا، بقدر تجريب السؤال الأخطر: هل نجحت فكرة الثورة نفسها؟ تعالوا نستعرض نماذج يمكن أن تجيب عن السؤال الثاني: عسكر وضباط النجدة يحتشدون بصورة كثيفة ويرددون شعارات الثورة. لم يكونوا يرددون شعارات الثورة وحسب، بل عمدوا إلى ترديد تلك الشعارات التي راجت في الأيام الأولى من زمن الثورة. بالنسبة لي فإن هذا المشهد يقول: كانوا يراقبون الثورة منذ بداياتها بينما هم ينصبون ضدها المتاريس. لكنها كانت، بوصف الثورة عنصراً جوهرياً في الفطرة البشرية، تسحبهم في ساقيتها. كما سحبت كل خصومها بمن فيهم يحيى صالح، الدونجوان الذي اضطر في الأخير إلى ارتداء تي شيرت جيفارا. لأن «أنبياءها الجدد» وأعني بهم طلبة الجامعات والفقراء الشباب من عمال الحراج كانوا يسوقونها إلى الناس بحسبانها أُمّاً للناس، وليست كسارة صخور. وما إن تحوّلت الثورة إلى «النهر اليمني العظيم» حتى خرج اليمنيون من كل مخابئهم وذهبوا يغترفون. ومعهم خرجت القوات الجوية، الدفاع الساحلي، النجدة، الأمن المركزي، الحرس الجمهوري، التوجيه المعنوي، الأمن السياسي، كل أولئك الذين قال صالح إنهم عناصر قوته في مواجهة الثورة، خرجوا إلى الماء، إلى النهر: يبتردون. وبالطبع، هناك مثقفون شديدو الخطورة سيسخرون من هذا المجاز، لأن الكتابة حول السياسة كما يفهمونها لا بد أن تكون فارغة من المجاز، كما هي فارغة عندهم عن المنهجية أيضاً. تلميذة صغيرة تتحدث إلى وزير التربية والتعليم عن مديرة مدرستها. تستخدم مصطلحات إجرائية متعلقة بالوعي العميق بمسودة الحقوق والمواطنة. هكذا دون ارتباك، وبلهجة تعزية صافية. تشير بأصبعها السبابة إلى صدر الوزير: ترضى لو بنتك .. إلخ. من غير «حضرتك» أو «معاليك». بينما طفلة أخرى تقول لصالح عبر الكاميرا: ستخرج من البلد بلا فراش، لأن الفراش ملك للشعب. في المحصلة الختامية: لدينا جمهور أصبح عصيّاً على التطويع، وتقريباً: جمهور بلا خوف. وهذا واقع غير مجرّب تاريخياً، أن يكون لديك «جمهور بلا خوف». يشكل هذا الجمهور «بلا خوف» عمقاً ليس له قرار لمفاهيم الثورة وقيمها الفائقة. على خلاف ما كان يحدث في كل التحولات الكبيرة على المستوى الوطني، بما في ذلك تلك الثورات التي لم يمكن الجمهور فيها سوى كنانة سهام إن لزم الأمر، معزولاً عنها معرفياً وثقافياً ورؤيوياً. فسرعان ما اختطفت تلك الثورة أمام أعين هذا الجمهور الذي لم يستطع حتى أن يلاحظ أن ثورته سرقت. ذلك أنها، في الواقع، لم تكن ثورته. لم يفهمها كما ينبغي، فلم يحرسها في الوقت المناسب. فلا تحرس الجماهير ما لا تفهمه، كما لا تفرط في تلك الأمور التي دفعت لقاءها أثماناً باهظة. يبدو عمر الثورة، أو الفصل الأول من الثورة، الذي امتد عاماً كاملاً أمراً ضرورياً لكي تحفر الثورة لجذورها المفاهيمية عميقاً في وجدان ووعي الإنسان اليمني المعاصر. الآن أصبحت الثورة أم الحقائق، وأكثرها جلاءً. لا يمكن لجهة ما بعد الآن أن تسرق «أم الحقائق» أو «الشمس في رابعة النهار». أي: أن تسرق الثورة. حالياً.. تقريباً: خرج اليمني الجديد من القمقم، ولم يعد ذلك الجيل المجهول الذي اعتاد أن يهجو اللصوص في القبو. وسيكون من المناسب أن ينتبه السياسيون جيداً لخطاباتهم. وحتى أولئك الذين اعتادوا أن يخطبوا في المساجد لفترات طويلة وكانوا يقولون ما يشاؤون بقوة ما يعتقدون أنه الدين. عليهم أن ينتبهوا الآن إلى ما يقولونه. لقد أفسحت الثورة مجالاً عريضاًَ لطَيف غير منتهٍ من المشيئات الجديدة، التي نعتقد أيضاً أنها متناغمة مع الفكرة الكلية للدين. ولن يمرر أحدٌ علينا بعد الآن تصوره الوحيد للدين، عندما تكون لدينا تصوراتنا الصافية والعميقة. لقد انتهى ذلك الزمن، ولن يتذكره منا أحد سوى من يفتقدونه. فالثورة لم تسقط نظام صالح، بوصفه نظام أسرة صالح. بل أسقطت النظام الأوتوقراطي والبطريركي والكنسي والأوليغاركي جملة واحدة، ودفعةً واحدة، بأشكاله الواقعية والممكنة وحتى المستحيلة. ففي لحظة ما قال صالح، المسخ، إن حكم اليمن كالرقص على ظهور الثعابين. وكانت الحقيقة أن صالح كان هو الثعبان الوحيد الذي يرقص في حديقة الحملان. لكن مشهد ما بعد الثورة ينطق للرئيس القادم بتلك الجملة التي قالها مسؤول مرموق في السي إي إيه للحكومة الأميركية: توقفوا عن ركوب ظهر النمر في الشرق الأوسط. كان يقصد الحكومات المتوحشة. لكن ما يجري الآن هو أن الشعب العربي، اليمني تحديداً، أصبح هو النمر. ولا أخطر من أن يزعم أحدُهم، على طريقة ويليام شكسبير، أنه هو قادر على «ترويض الشرس» وركوب ظهر النمر. فلم يعُد اليمن سركاً بعد الآن، ولا مسرحاً للأقنعة اللينة والرخوة. حالياً، وهذا رأيي الشخصي، نعم لعبد ربه منصور رئيساً انتقالياً في الفترة الانتقالية. نعم للعدالة الانتقالية بما يفضي إلى تسوية حقوق الضحايا وتخليدهم: مقترح: يحول دارس الرئاسة في السبعين إلى متحف للثورة اليمنية، ويقام تمثال عظيم في ميدان السبعين تنحت فيه صور وأسماء كل شهداء الثورة. نعم للحكومة الانتقالية، ولكل ما هو انتقالي يفيض على الثورة ولا يشفط عناصر قوتها. فالمرحلة الانتقالية، بكل تنويعاتها، هي حصان طروادة العظيم الذي سيتيح للثورة أن تتسلّل إلى كل البنى والمؤسسات والجهات. ستتيح للمجتمع أن يصحح كل خطاياه الاجتماعية والأمنية. ستمنح الفقراء في إب فرصة لكي يطووا بساط الطغيان المحلي بأقل قدر من الضجيج. وستتيح لضباط البحريّة في الحديدة أن يفتحوا الأسوار والشبابيك ويرسلوا في طلب رفاقهم الذين اختطفوا في جيبوتي، وأمرهم قائدهم المجرم أن يصلوا عليهم صلاة الميت الغائب. نعم لخلق ترَع وفروع جانبية وسواقٍ من النهر اليمني العظيم، لكي تصل إلى أقاصي التاريخ والمستقبل: ثورة بلا ضفاف. الثورة، أي ثورة، لا يمكنها أن تمكث في الميادين على طريقة الغلاديتور، أو المجالد. من المناسب أن تخضع لتحولات جوهرية، تحولات في الشكل والأداء وفقاً للحقائق الجديدة وهذا لا يعني أن يخرج الشباب من الميادين، بل أن تبقى الميادين والخيام حية كما كانت، متناغمة مع الوقائع الجديدة الجيدة غير متصادمة معها.
قلنا في المقدمة: حتى الحقائق الجديدة هي حقائق مؤقتة غير نهائية في طريقها إلى أن تصبح حقائق أخرى فيما بعد. لم يعد النظام، الآن، ثوراً أسبانياً. لقد أنهك وسقط على الأرض، وبقي جزءٌ من جمهوره المراهنين عليه. لم تنتهِ القصة، بالطبع، لكن أيضاً: على الشباب العبقري الذي استخدم الرقعة الحمراء بمهارة فائقة في مواجهته للثور الأسباني حتى أنهكه، على هذا العبقري أن يدرك أن هذه الرقعة الحمراء ليست السكين السويسرية: وهي تلك السكين التي تصلح لكل شيء، لفتح الأقفال، فتح علب التونة، تقطيع اللحم، تقليم الأظافر، فتح زجاجات الويسكي .. إلخ. لكل مغلق مفتاحه الخاص. و«كل غنوة ولها موّال» كما يقول الأدب الشعبي المصري. أمامنا أقل من ثلاثة أسابيع. وسيكون لدينا رئيس جديد. هذه ليست خاتمة الثورة، لأن الثورة أصبحت الآن أبدية وأكبر من أن تحدها الساحات والميادين، ومتتالية بلا ختام، لأنها النهر الذي لا يمكن أن تنزل إليه مرتين، فسيكون قد تغيّر كلياً. وأيضاً، وبألم أقول: لقد أصبحت من الضخامة بمكان حتى إنه لم يعد بمقدور أحدٍ أن يمتلكها وإلا قضت عليه، رغم كل ما بداخله من جوى.