مهما كانت قوة الإعلام وسطوته وقدرته على الخداع والتضليل فلن يستطيع أن يحول القبح إلى جمال، وقد عشنا وشهدنا كيف سقط الإعلام الشمولي في مجتمعنا قبل سقوطه النهائي، حسبه أنه يحمل بذور فنائه داخله، ظل يغرد خارج التاريخ، ولم يصمد أمام الثورة المعرفية الكبرى التي نشهدها الآن، والتي اقتحمها الشباب باقتدار مكنته من الوعي بذاته وبمجتمعه ومحيطه وبالعصر. كانت الهوة سحيقة بين ما يدعيه “النظام” وما يمارسه في الواقع، وكان ذلك ما أدى حتماً إلى تآكل شرعيته، ومن ثم أدى إلى الثورة التي حمل مشعلها الشباب، ثورة سلمية حضارية، انضم إليها الشعب بشتى قواه وفئاته؛ لأنها تهدف إلى التغيير والبناء لمصلحة الشعب، ثورة من أجل الحرية والكرامة والمساواة والدولة المدنية الديمقراطية، دولة الحق والقانون. إن الحرية كلٌ لا يتجزأ، وحرية الإعلام هي أساس كل الحريات، وهي غير قابلة للتأجيل، واليمن تستحق هذه الحرية منذ أمد بعيد، فهي جديرة بها، إنها الحق والإرادة الوطنية التي عبرت عنها الثورة الشبابية الشعبية. أتذكر عبارة كان يرددها أحد الزملاء عندما كان يأخذنا الحديث حول أزمة الإعلام في مجتمعنا في الفترة الماضية، تقول عبارته الساخرة: نريد حرية الإعلام وليس حرية وزير الإعلام، ومؤدى ذلك أن الإعلام السلطوي فاقد الحرية، لكنه حر في أن يضلل ويمارس التعتيم والرداءة، والمنع والمنح، والمصادرة والحجب..إلخ. وحرية الإعلام ليست هي الفوضى، كما يدّعي البعض، حرية الإعلام مرتبطة بالمسؤولية الاجتماعية، وبقواعد ومعايير المهنة الإعلامية وأخلاقياتها.
ولما كانت المرحلة الجديدة تقتضي إعادة هيكلة الإعلام بصورة شاملة، فدون إنجاز ذلك غير قليل من الترتيبات اللازمة، غير أن ثمة ما يدعو في اللحظة الراهنة إلى تحرير الإعلام العام من جموده وشموليته، والاهتداء إلى طريق مثلى للتعامل الإعلامي مع المرحلة الجديدة، وأظن أن قدراً من هذا الاتجاه قد بدأنا نلمس شيئاً من أثره في بعض من الوسائل الإعلامية العامة، ولعل صحيفة”الجمهورية” تحلت في تقديم النموذج من خلال انفتاحها على الجميع، فيما لاتزال بعضها مترددة وإن تحررت من التيمات غير اللائقة.. من الطبيعي أن تتحرر من بؤس الإعلام الشمولي، فالفترة الانتقالية تتطلب إعلاماً يواكب طبيعتها ومعطياتها وتطلعاتها، فتطوير المضامين الإعلامية متحررة من الأحادية والتضليل، بحيث تتسم بالتدفق الحر للمعلومات والأنباء والآراء، قائمة على الصدق والدقة والشفافية والانفتاح على الجميع، وتقديم الحقائق لعدم التضليل، لابد أن يصحبه بالضرورة اختيار قيادات إعلامية للوسائل الإعلامية المملوكة للدولة والممولة من الشعب، تتسم بالكفاءة والنزاهة، وتتوافق مع توجهات المرحلة الجديدة، ولا يعني هذا استبعاد القيادات الإعلامية القائمة حالياً والتي تنطبق عليها المعايير المشار إليها آنفاً. كما أن التوجه إلى اعتماد الإدارة الإعلامية الحديثة بات ضرورياً بما يقلل من الهدر للموارد الذي يتسم به النظام الإعلامي القائم، وبما يعيد توظيف الموارد المادية والبشرية على نحو رشيد، ويحقق اقتصاديات الإنتاج الإعلامي والجودة الإعلامية. وإذا كنا في هذا المجال نتحدث عن تحرير الإعلام العام من الشمولية والسلطوية، فإن الحرية لا تتجزأ، وعليه فإن الإعلام الخاص يتعين ألا يتعرض للحجب والمنع والمصادرة والقمع، إلى آخر ما كان يتعرض له الإعلام الحر في فترة ما قبل الانتقالية من انتهاكات سلطوية، والواقع اليوم أن مثل تلك الوقائع المعادية للحرية قد باتت من التاريخ. يبقى أن يتوافر الإعلاميون العاملون في الإعلام العام والخاص (الحزبي والأفراد) من خلال نقابة الصحفيين إلى إنجاز مدونة سلوك تتضمن الأخلاقيات التي يتعين أن يلتزموا بمعاييرها والعمل في ضوئها، ويندرج إنجاز هذه المدونة ضمن متطلبات العمل الإعلامي في الفترة الانتقالية المشار إليها آنفاً. إن حرية الإعلام مقررة للشعب في كل الأحوال، فلله در شبابنا الثوار الذين غرسوا نبتة الحرية في يمننا الجديد. بإرادته الحرة انتزع شعبنا حريته، ولن تثنيه محاولات فلول الظلام اليائسة عن التمتع بحقه في الحرية والانتصار لحريته. وهذا الشاعر محمد الفيتوري يتغنى: الملايين أفاقت من كراها ما تراها.. ملأ الأفق صداها خرجت تبحث عن تاريخها بعد أن تاهت على الأرض وتاهَ