نحن أذكياء بشكل أسطوري هكذا نظرنا إلى أنفسنا بينما نحن أغبياء بشكل فاضح. تحدثنا عن الحفاظ على أرواح الناس ونبذ القتل، بينما القتل لم يتوقف، وباركنا مسيرة قطار التغيير السلمي بينما هو يسير على سكة من الجماجم والأرواح، وتبجحنا بالسلمية وتركنا الناس تموت كل يوم. لا أقول أن الثورة كان يجب عليها أن تحمل السلاح، ما يهمني هنا هو ذلك الشعور بالخيبة الذي يتملك الكثير منا، الإحساس بالهزيمة، الغصة الجديدة المسماة "ثورة" التي كان من المؤمل منها أن تكسر حاجز الخوف والبلادة، وأن تمنحنا الجرأة على رفع أصواتنا عالياً في وجه كل ممارسة تنال من إنسانيتنا ومن حقنا في الحياة كباقي مخلوقات الله، لكنها على العكس من ذلك أصابتنا بالبلادة والخوار والعجز، وإلا بماذا يمكننا أن نفسر الصمت المريع تجاه كرامتنا التي تسحق كل يوم وتداس بالأحذية ونحن لا نحرك ساكناً؟! لكن ذلك هين جداً إزاء ما يمكن أن يشعر به أحد معتقلي الثورة في هذه اللحظة داخل المعتقلات الغامضة والسجون التي لا تسمى. لا أعرف إن كان قد سجل التاريخ ثورةً تنتهي بمعتقلين (من أبناءها) في السجون!! لكني أعرف حق المعرفة أن الثورات كانت (ثورات) لأنها قامت من أجل معتقلين في السجون، ومن أجل ضحايا السلطة القمعية، ومن أجل الإنسان المستلب والمضطهد والمقهور... اقتحم الفرنسيون سجن الباستيل في باريس عام 1978م، ولم يكن بالسجن حينها سوى 7 أسرى، لكنك حين تتحدث عن الثورة الفرنسية لا يمكن أن تفصلها عن هذا الحادث الذي يجسد رمزيتها، كما يجسد بوعزيزي (صاحب العربية) رمزية الثورية التونسية والربيع العربي، وكما يجسد (خالد سعيد) رمزية الثورة المصرية، وخرج الليبيون وقلبوا الطاولة في وجه العقيد في يوم 15 فبراير 2011 اثر اعتقال محامي ضحايا سجن بوسليم فتحي تربل في مدينة بنغازي وكان على رأسهم أهالي الضحايا... واشتعلت في ليبيا ثورة..(واليمن أعلنها ثورة) لكن أي "ثورة" هذه التي لا تعطي اعتباراً للإنسان ولو كان من أبنائها؟؟ أي "ثورةٍ" هذه التي نجحت في إخراج صالح من الحكم، بينما لم تنجح في إخراج معتقليها من السجون؟؟!! تبدأ الثورات عادةً كحالة رفض تملأها قوة غضب جامحة ضد ممارسات السلطة في حق فرد أو أفراد يرى المجموع أنها تمس ذاته الجمعية، أو أنها تجسد منظومة السلطة وشخصيتها، وتنتهي أو تنضج حين تكون قد قطعت شوطاً أو حققت خطوات أساسية ومهمة في تكريس مثل هذه القيم: احترام الإنسان كسر حاجز الخوف، الحرية العدالة، كتابة عقد اجتماعي جديد يعاد فيه تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم... أو على الأقل المبادئ التي قامت من أجلها.. فأين نحن من ذلك؟! الآن فقط يبدو لي فداحة ما كنا عليه إبان عام وأكثر ونحن نهتدي بضلال المثقف ونحكم فينا المنطق البليد، والآن فقط أدرك حساسية الدور الذي كان يمكن أن يلعبه المثقف في التشريع للسياسي لا في الشرعنة لممارساته العمياء... كم نحن في ضلال مبين ونحن نهتدي بالعقل ونبحث عن الحكمة اليمانية، ونتحدث عن شهداء الثورة بكل بساطةٍ هكذا: (ليست الثورة انتقاماً، والشهداء الذين سقطوا في الساحات لم يسقطوا في سياق ثأر شخصي بينهم هم وصالح، ولكنهم سقطوا من أجل وطن، وإذن فأن ننسى الهدف الذي وهبوا حياتهم من أجله، ونطالب بمحاكمة صالح فهذا في حد ذاته خذلان للشهداء وخذلان للهدف السامي الذي لم يعودوا بعد أن خرجوا من أجله...) وكان هذا عين العقل. أود لو أشرت بسبابتي إلى هذا الواقع التافه وفقأت هذا الشيء الملعون الذي نسميه "عين العقل"، عين العقل هذه التي لا ترى الشهداء، ولا أسرهم، ولا الجرحى وأحزانهم، هذه الثورة التي يمكنها أن تحل مشاكل "المنقطعين" من موظفي التربية، بينما لا تستطيع أن تحل "عقال" شبابها المرميين في السجون... إنه العقل، وليس من باب المصادفة أن يكون لمفردة "العقل" في اللغة صلة معجمية دلالية ب"الاعتقال، والمعقل، والعقال...." إنها الدلالة الأقرب إلى معنى العقل في وطن يبدو ك"معتقل كبير" قامت فيه ثورة على السجان، لكنها احتكمت إلى "العقل" وبرزت فيها الأصوات "العقلانية" واستندت إلى الحكمة اليمانية التي تجلت في التدبير العقلاني لعقول المشترك وحزب الإصلاح "عقل الثورة" المدبر الذي لم يجد تعارضاً بين "العقل" و"المعتقلات" في الساحات، وبين "العقل" وبقاء "المعتقلين" في السجون حتى الآن... آلة القمع التي قتلت شباب الساحات في صنعاء وتعز، قتلت شباب الساحات في عدن وحضرموت، والكهرباء التي كانت تنطفي ما زالت تنطفي، والثوار الذي أخرجوا صالح من الحكم "داخل المعتقلات" وأسر شهداء ثورات 26 سبتمبر وغيرها، أحسن حالاً من أسر شهداء الساحات، والإرهاب الذي كان أداةً في خطاب صالح، ما زال أداةً في خطاب هادي وباسندوة، وطائرات بلا طيار تتكاثر في سمائنا كالجراد، والطائرات التي كانت تقلع من الأساطيل في البحر، صارت تقلع من العند، وثلاثي صالح القاعدة والحوثيون والحراك، بصفتهم أعداء النظام، هم ثلاثي الوفاق القاعدة والحوثيون والحراك، بصفتهم أعداء مشتركين للمؤتمر والمشترك (متفق عليه). لا شيء تغير... عملاء السعودية وإيران صاروا يفعلون ذلك بكل شفافية ووضوح "ورجل على رجل"، وصالح الذي أهاننا في الخارج، ليس أقل من باسندوة وحكومته، الذين أشعرونا بضعفنا، ومنحونا المزيد منه، حين تحول رئيس الوزراء إلى شكاء بكاء، وحين يبدو رئيس الجمهورية عاجزاً عن حماية منزله... وستقولون ماذا تريد أن تقول؟! وسأقول لكم بكل صراحة: بعيداً عن كل ما سبق عبدالإله حيدر وحده سبب كافٍ لأن نفعل شيئاً ما كأن نقوم بثورة...