عبد الإله الحميدي أصيب بطلق ناري في جولة كنتاكي في الزبيري ومن ذلك الوقت لم يفارق المستشفيات حتى كتابتي لنعيه الآن, بدأت رحلة معاناته بالإعاقة ومن ثم الإهمال وبعدها الموت دون أن يعرف أحد عن قصته ومعاناته ومن وراء كل ذلك الألم، وهنا سأحكي جزءاً من معاناة شهيد الجراح والتي عرفت جزء منها معه وكنت مع من أهملوه. تعرفت على عبدالإله في المستشفى الميداني حيث أجريت معه مقابلة في برنامج الوجع الحي وكان قبل التصوير يتألم ويتأوه لكنه أذهلني أثناء تسجيل الحلقة بقوة طرحه واعتزازه بالثورة وبالتضحيات التي قدموها، بعد المقابلة قال لي أن أعطيه تسجيل للحلقة لأنه في المستشفى ولن يتمكن من مشاهدتها فأخبرته أني سأرسلها مع أحد الشباب فقال لي أنه سيسافر مع الدفعة القادمة والتي ستسافر إلى تركيا وانتهى اللقاء وكان رائعاً كروحه وبكيت ذلك اليوم كثيراً وفي اليوم التالي عدت لحياتي الطبيعية ونسيت عبدالإله وجراحه وإذا مر بخاطري أدعو له وانتهي. مرت أسابيع وعدت للمستشفى لعمل آخر فأتفاجئ بعبدالإله على كرسيه المتحرك يتجه نحوي وأسأله (عادك هانا؟) فيجيب بكل ألم (قالوا بايسفروني فرنسا أو الصين) للوهلة الأولى ظننته يمزح وابتسمت وقلت له لماذا؟ فلم يجيبني، وقال لي أنه يريد أن أجري معه لٌقاء يتحدث فيه عن معاناة الجرحى في المستشفى الميداني وعن الطريقة التي يتم فيها اختيار الجرحى للسفر كنت مشغولة في تلك اللحظة وقلت له أن الموضوع الذي أصور فيه اليوم مختلف وأني سوف آتي إليه وقت آخر أدار كرسيه وأبتعد والتف إلى أحد المتواجدين في المستشفى أظنه مرافق لأحدهم وقال لي (ضروري تتكلموا على هذا الجريح طول الليل ما ينام ويجلس يصيح والله أنه يبكي ساع النسوان) هززت رأسي وأكملت عملي وذهبت في اليوم التالي لمدير البرامج بقناة يمن شباب وأخبرته عن الوضع فقال لي أن أعد حلقات وتحقيقات فيما يخص وضع جرحى الثورة اليمنية وبكل بطئ بدأت بجمع البيانات بعدها بيومين جاء خبر موت جريح من جرحى الثورة في مستشفى الثورة فذكرت عبدالإله ومسؤوليتي الشخصية نحوه على الأقل لمعرفتي به اتصلت به أجابني بصوت متخم بالوجع وأخبرني أنه انتقل لمستشفى الثورة وأن الوضع أشد بؤساً من الميداني وأن حالته تتدهور والتقرحات والآلام تزداد. تأثرت كثيرا وأرسلت مراسل القناة لمستشفى الثورة لتصويره وأخذ تصريحات منه وبدأت بجمع معلومات حول الجرحى وكان الوضع ملتبس نوعاً ما حيث وهناك جرحى أساءوا لقضيتهم فالبعض جراحه طفيفة وآخرون يدعي ذلك ومن وراءهم من أراد المزايدة باسمهم ومع ذلك فهم قلة وكان وضع الجرحى بالرغم من الجهود التي بذلت لا يرقى لمستوى التضحيات التي قدموها. أذكر أني كنت متفاعلة ولكن بدأ تفاعلي يخفت مع مشاغل الحياة واهتمامات أخرى وإن كانت في سياق الثورة ولكنها كانت بعيدة عن عبدالإله ومعاناته. ومع ذلك كان عبدالإله يزور تفكيري بين فترة وأخرى اتصلت به مرة وكان صوته كألمه ونسيته بعدها حتى جاء رمضان وقررت زيارته من أول رمضان وأنذرت بعض المال له وصرفته وانشغلت حتى آخر رمضان وفي آخر جمعة في رمضان استيقظت الصباح وعبدالإله يشغل تفكيري لا أدري لماذا اتصلت به وبكلمات متقطعة فهمت أنه في العناية المركزة، أيقظت زوجي لصلاة الجمعة وأخبرته أني سأقوم بعمل استثنائي لم أقم به هو أني سأقفل على أولادي البيت ونذهب لزيارة عبدالإله ولأول مرة اقفل على أولادي المنزل وأخرج إلا أن هناك شيء جعلني أصمم لأن الوقت لا يسمح بأن آخذهم لبيت جدهم وكان إصراري على زيارة عبدالإله غير عادي، تذكرت أني قد صرفت المبلغ فاتصلت بفاعلة خير فأعطتني مبلغاً واكتفيت بذلك ونسيت نذري. وصلنا المستشفى ودخلت العناية المركزة حيث يرقد هناك شبه جسد يحمل ذكريات الثورة. كشفت عن وجهه وقد ازداد شحوباً ونقص وزنه كثيراً وزبد في فمه وشكرني أني زرته!! في تلك اللحظة بكيت، كنت أنظر إليه وابكي لم أصبره كما يفترض ولم يسكتني ربما تركني ابكي كيف أكفر عن ذنوبي معه، لكني زدت ذنوباً ورحلت سريعاً فلم استطع تمالك نفسي برغم أنه يريد أن يحدثني عن وضعه وقال لي (إحنا مهملين هنا وهم طلعوا على ظهورنا وفلتنونا) بكيت كثيراً واستأذنته وخرجت وكم ندمت حين عرفت باستشهاده ولم استمع إليه. كان يريد مني أن أوصل رسالته ولومه لمن قصروا بحقه وأخوته لكني تركته وحيداً بوعد من وعودي السابقة أن أعود إليه مرة أخرى وسألت الطبيب عن حالته فقال لي أنه يعاني من فقر شديد بالدم وأنهم سيجروا له عملية بسبب تورم فخذيه والتقيحات التي في ظهره. غادرت المستشفى وصراخه يرافقني حتى البوابة وكعادتي ذرفت الكثير من الدموع وأرسلت اللعنات الأكثر على من أهمل الجرحى وهم منهم. وكعادتي انشلغت بحياتي والعيد ذهبت أكسى أبنائي وأحمد الله على ما وصلنا إليه وكيف كنا في مثل هذه الأيام من العام الماضي بين الخوف والقلق وكيف أن هذا العيد سيكون مميزاً بدون المخلوع، وعلى هامش الفرحة أتذكر الشهداء والجرحى أمر في الشوارع ليلة العيد وعمال النظافة ينظفون صنعاء ولوحات التهاني والاهتمام بالنظافة مكان تلك التي كان المخلوع يهنئنا بالعيد الذي قتل فرحته والألعاب النارية ليلة لعيد تملئ السماء وأخبر بنتي أن تراها وتفرح فترفض وتُذكرني بتلك الليلة التي كنا فيها بساحة التغيير بصنعاء حين أطلق أنصار المخلوع الأعيرة النارية فرحاً به وكنت خائفة عليها وغطيت رأسها بدميتها خوفاً عليها من الرصاص الراجع بينما نجري سريعاً لنصل إلى البيت. فحمدت الله لما وصلنا إليه اليوم وأخبرتها أن كل شيء قد تغير وأن هذه الألعاب للفرح فقط. صلينا العيد في ساحة الستين، ضحكنا ، تبادلنا التهاني وتذكرت عبدالإله وقد كنت قبل أيام أحاول التواصل معه لأطمئن على العملية ولا يرد، أخبرت زوجي دون إصرار أني أتمنى زيارته لكننا انشغلنا. ومع ذلك في ثاني أيام العيد عاد لي ذلك الشعور حول زيارة عبدالإله لكنا ما زلنا منشغلين ببروتكولات العيد. وبالرغم من هذا حاولت التواصل معه بالهاتف فلم يجب حتى وصلتني رسالة من صديقتي تخبرني باستشهاد عبدالإله ظهراً. رميت التلفون صرخت وبكيت أخذت وسادة وغطيت بها وجهي كي لا يسمع صراخي أحد. كنت أصرخ سامحني يا عبدالإله لم أوصل رسالتك التي كنت أريد أن يعرفها الناس لم أخبرهم عنك عن جراحك وقروحك وآلامك عن انتظارك للسفر علك تجد أمل باستعادة صحتك. ذهبت للمستشفى ولأول مرة ادخل ثلاجة الموتى اقتربت من رأسك صرخت سامحني يا عبدالإله كنت على يقين أنك تسمعني واني لا بد أن أطلب منك السماح. وطلبت منك أن تسلم على الرفاق كنت أريد أن تخبر علوي الشاهري اني عرفت أن زوجته تمر بظروف صعبة مع أولاده وحزنت وكفى واني عرفت أن زوجة خالد الحزمي أخرجها صاحب المنزل من البيت لعدم قدرتها دفع الإيجار وحزنت وكفى، وأن تخبر أنيس القدسي أن زوجته وأولاده ذهبت لتسكن في القرية فلم تستطع تحمل أعباء العيش في صنعاء وحزنت وكفى. أخبرهم أني ذهبت مع أولادي للسوق وكسوتهم وفرحوا وأولادهم وحيدين وأولادك لم يروك منذ أصبت. أخبرهم أن الوزراء الذين صعدوا على دمك كما قلت بين أولادهم ويصدعون رؤوسنا بالشكوى من العمل وأهليكم تصدعت قلوبهم من الألم. أخبرهم أن يسامحوني يا عبدالإله... أرجوك لا تعاملني بالمثل فلم أخبر الناس عن ألمك ولم أوصل رسالتك. وحين موتك لم يعرف أحد كان موتاً عابراً ، فقنوات الثورة التي كانت تحيي حفلات لموتكم أرسلت شريطاً أحمر يخبر بأنك مت متأثراً بجراحك وأي جراح يا عبدالإله قضت عليك. عبدالإله... كانت الحيرة والحزن في تلك الليلة رفيقتاي فلم أدر ما الذي أقوم به كي أكفر عن ذنوبي معك. ذهبت لقناة يمن شباب لإقناعهم أن موتك يجب أن يكون ثورة على من رضي بأنصاف الحلول وأن التضحية بكم لنلبس اليمن ثوب جديد لم تزد ذلك الثوب المرقع إلا دماء. ثورة على من لم يستوعب بعد أنكم وأهاليكم لا بد أن تكون رقم 1 في الاهتمام والرعاية. وأن الدولة لا بد أن تتكفل بكم. ثورة على من إذا لمناهم فيكم ظلوا يشكون ويبكون وينبري من الرفاق من يدافع وكأن نقد الأخطاء انقلاب على الثورة ونسوا بأن الله سبحانه وتعالى عندما عاتب محمد صلى الله عليه وسلم عتاباً شديداً بإعراضه عن الأعمى لم يبدأ بذكر مواقفه وتضحياته الجسيمة وما يعانيه في سبيل الدعوة حتى تلك اللحظة التي عاتبه فيها بل إنه سبحانه كان شديد اللهجة معه (عبس وتولى أن جاءه الأعمى). وزادت حيرتي حين اتصلت بأحد اقربائك واخبرني ان الطبيب الشرعي كتب في التقرير ان الموت كانت نتيجة للإصابة بطلق ناري ولم يذكر أي اسباب مقنعة اخرى. وانك ما تزال في الثلاجة لان الإجراءات لإخراجك لم تكتمل (أيام عيد) وكأن كل شيء في عمرك الثوري لا بد أن تعاني فيه حتى دفنك.