الحكومة تدين اختطاف مليشيا الحوثي للصحفي العراسي على خلفية تناولاته لفضيحة المبيدات القاتلة    مجزرة مروعة في محافظة تعز واستشهاد 5 نساء بقصف حوثي على المدنيين    هل يُخفي البحر الأحمر مخططًا خطيرًا؟ القيادي المؤتمري ابوبكر القربي يُحذر!    الدوري الالماني ... بايرن ميونيخ يحقق الفوز امام فرانكفورت    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    البريميرليج ... ليفربول يواصل السقوط    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    "نجل الزنداني" يكشف عن رسالة من ايران لأسرتهم ..ماذا جاء فيها    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    اختطاف خطيب مسجد في إب بسبب دعوته لإقامة صلاة الغائب على الشيخ الزنداني    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    ارتفاع إصابات الكوليرا في اليمن إلى 18 ألف حالة    أسفر عن مقتل وإصابة 6 يمنيين.. اليمن يدين قصف حقل للغاز في كردستان العراق    استشاري سعودي يحذر من تناول أطعمة تزيد من احتمال حدوث جلطة القلب ويكشف البديل    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    اليوم السبت : سيئون مع شبام والوحدة مع البرق في الدور الثاني للبطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت    مقاتلو المغرب على موعد مع التاريخ في "صالات الرياض الخضراء"    مركبة مرسيدس بنز ذاتية القيادة من المستوى 3    لماذا يخوض الجميع في الكتابة عن الافلام والمسلسلات؟    ضبط المتهمين بقتل الطفل الهمداني في محافظة إب بعد تحول الجريمة إلى قضية رأي عام    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    جماعة الحوثي توجه تحذيرات للبنوك الخاصة بصنعاء من الأقدام على هذه الخطوة !    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    حادث مروع .. ارتطام دراجة نارية وسيارة ''هليوكس'' مسرعة بشاحنة ومقتل وإصابة كافة الركاب    بعد القبض على الجناة.. الرواية الحوثية بشأن مقتل طفل في أحد فنادق إب    كان يرتدي ملابس الإحرام.. حادث مروري مروع ينهي حياة شاب يمني في مكة خلال ذهابه لأداء العمرة    تعرف على آخر تحديث لأسعار صرف العملات في اليمن    مأرب تقيم عزاءً في رحيل الشيخ الزنداني وكبار القيادات والمشايخ في مقدمة المعزين    عشرات الشهداء والجرحى في غارات إسرائيلية على وسط وجنوب قطاع غزة    السلفيون في وفاة الشيخ الزنداني    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    رفض قاطع لقرارات حيدان بإعادة الصراع إلى شبوة    قذارة الميراث الذي خلفه الزنداني هي هذه التعليقات التكفيرية (توثيق)    ما الذي كان يفعله "عبدالمجيد الزنداني" في آخر أيّامه    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    قوات دفاع شبوة تحبط عملية تهريب كمية من الاسلحة    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    عاجل: إعلان أمريكي بإسقاط وتحطم ثلاث طائرات أمريكية من طراز " MQ-9 " قبالة سواحل اليمن    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمعة «لا حصانة للقتلة».. هكذا أوصت تفاحة وزينب وياسمين
نشر في المصدر يوم 11 - 11 - 2012

لم يكن يوم الحادي عشر من فبراير 2011، يوما عاديا في ذاكرة الثورة الشعبية السلمية، بل وفي حياة كل اليمنيين.. للثوار في هذا التاريخ ذكريات لا تنضب.. جرح مفتوح لا يندمل..

صباح جمعة "لا حصانة للقتلة"، كان ثوار اليمن يتقاطرون إلى الساحات.. ثوار تعز أيضا، كانوا هناك في ساحة الحرية، يفرشون سجادة الصلاة، في وجه الموت، بعزائم لا تلين، وإصرار يأبى التراجع.

الرصاص يمطر ساحتهم منذ ظهر اليوم الأول.. قوات الرئيس السابق يستميتون للحيلولة دون دخول الساحة.. اعتراض مسيرة الخميس 10/11 كان شاهدا على خبث طويتهم.. مكرهم المتواصل لمنع إقامة الجمعة في اليوم التالي..

تزايدت خطى الثوار والثائرات إلى ساحتهم، على وقع أصوات المدافع والرشاشات.. كان الجميع يأخذون مواقعهم، يتأهبون للصلاة. خطيب جمعة "لا حصانة للقتلة" يتهيأ لصعود المنبر، فيما تفاحة صالح العنتري، وزينب حمود الحزمي، وياسمين سعيد الأصبحي، في مكانهن المعتاد.. وبجوارهن زينب المخلافي..

غير بعيد عن المكان، كان حي الكوثر المتاخم لساحة الحرية، يسجل واقعة إجرام أخرى في منزل الشهيد هاني الشيباني، خطتها شقيقته الثائرة "وفاء" بدمه على جدار البيت (ارحل يا سفاح)..

ملف أعده/ محمد عبدالله الجماعي
[email protected]

جميع من في الساحة في مرمى القتلة ذلك اليوم، الكل أمام اختبار إرادة أقوى من الفولاذ. القاتل يتفقد مخزن ذخيرته المتناقص، في الوقت الذي كان إيمان الثوار بحقهم، يزداد أكثر..

المشهد في تصاعد ملحوظ بين الفريقين. أصوات القذائف المرتعشة كما لو أنها تعزف سيمفونية لإلهاب حماس أبناء المدينة الثائرة، كأنها جرس يحضِّر الطلاب لطابور الصباح..

اكتظت الساحة بالحضور والزغاريد وتكبير المصلين.. فيما مخازن الذخيرة تؤول إلى نفاذ.. وها هو خطيب الجمعة الأستاذ أحمد عبدالرب يصعد إلى منبر الثورة بثبات، يروي النبأ الفاجعة، البعض يهرع للإنقاذ، فيما البقية صامدون في أماكنهم.. لقد كان درس المحرقة قاسيا جدا..

الجريحة الثائرة زينب المخلافي تروي قصة قصف مصلى النساء بساحة الحرية
· يعلم كل أبناء تعز أن مصلى النساء بساحة الحرية، يبدأ من أمام فندق المجيدي يمين المنصة.. الأمر الذي يعني أن استهداف الفندق بقذائف المدافع والرشاشات، كان عمدا وعدوانا وعن سبق إصرار وترصد..

الثائرة الجريحة الثائرة زينب سعيد المخلافي كانت هناك.. أبقاها القدر شاهد عيان على قبح النظام.. هي إحدى الضحايا الناجيات من الموت ذلك اليوم. زينب المخلافي (22 عاما) هي الشاهد الأقرب، كل اليمنيين شاهدوا هذه الثائرة وهي تخرج من بين الأنقاض، من تحت ركام الموت الذي غيب رفيقاتها الثلاث، تفاحة وزينب وياسمين بمجرد سقوط القذائف عليهن..

على فراش المرض روت زينب ملحمة ذلك اليوم الأليم.. كانت وأختها تهاني في الساحة منذ ال 10 صباحا يشاركن في تنظيفها استعدادا للصلاة، قبل أن تهطل عليهن أولى قذائف الموت من مستشفى الثورة للخدمات العسكرية!. في الوهلة الأولى قالت لأختها مازحة "اعتبريها ألعاب نارية"!. ثم قالت في نفسها "لن يستمر القصف، سيأتي الجمع المظفر وسيتوقف القصف أكيد، مش معقول إنهم بيقصفوا على الناس كلهم"!!.. ببساطة كانت زينب تفكر هكذا، وهل كانت إلا تلك الحشود الظافرة هي سبب ما يفعله زبانية صالح منذ البداية..

· تروي زينب حوارها الأخير، مع تفاحة، وزينب، وياسمين بعد احتمائهن بالفندق حتى لا يتعرضن للقصف..
- تفاحة: إن شاء الله أنني اليوم بعد عزيزة الله يرحمها، ويكتبنا من الشهداء اليوم ويتقبلنا معهم.
- زينب الحزمي: إن شاء الله انحنا اليوم من الشهداء..
- ياسمين: (كانت مبتسمة بشكل لافت، ولا أدري لماذا كانت مبتسمة بهذه الطريقة): إذا دفنتموني فشيعوني وادفنوني الجمعة أو الخميس أو الاثنين لكي تكون المسيرة مكتملة والكل يمشوا في جنازتي..
- أما مريم فجاءت لتسلم علينا وهي تقول إما الشهادة وإما النصر، (وجلست على الأرض مباشرة، ما توقعتش سوا حتى)!! فقلت لها إن شاء الله الشهادة!"..

ذلك هو سيناريو الفصل الأخير لبنات المظفر وشهيدات الحالمة، كما ترويه الطالبة في قسم العلوم الشرعية زينب "كلنا كنا نتوقع الشهادة لأن القصف بكثافة لم نكن نتوقعها في يوم جمعة وعلى مصلى النساء!!"..

وتضيف: "كان الشباب يصورون من فوق المنصة، قلت لهم مازحة: اصبروا حتى أكتب في يدي (تعز حرة) وبعدين قولوا للنظام يقصف!! وكتبت: (تعز...)! ولم أكمل (حرة).. حتى ألقتني القذيفة على الأرض، وأغمي عليّ، وعندما أفقت، كنت أشم رائحة الدماء، وأرى الشظايا، حاولت أن أنقذ نفسي من القذيفة الثانية فسقطت على الأرض، لأن القذيفة الأولى كانت قد قضت على الأخوات وأسقطتهن أرضا، وكانت الأخت زينب الحزمي هي أول من رأيتها تسقط ورأيتها خلاااااص لا تحرك ساكنا، فقلت لنفسي إن الأخوات الست قد استشهدن.

ترنحت زينب هاربة من لهيب القذيفة، وعندما حاولت النهوض سقطت مرة أخرى أرضا، لأن الإصابة كانت بليغة. "لم أستطع من شدة الجروح في رجلي، كنت استغيث وأصرخ ماذا بقي من أخواتي، ماذا أبقى النظام لنا وكنت أرفع يدي وأستغيث بالإخوة والأخوات فأنقذوني وسط القذائف والقصف، فجزاهم الله كل خير!!"..

مستشفى الثورة يقصف مستشفى الروضة ب 15 قذيفة!!
لم تنته تراجيديا الجمعة الدامية عند هذا الحد.. فقد أسعفت زينب وأخواتها تهاني ومريم وغيرها من المصابين إلى مستشفى الروضة، المستشفى الميداني لساحة الحرية بتعز، وهناك حدث أيضا مالم يكن بالحسبان. تحولت غرفة العمليات في الدور الثاني للمستشفى إلى هدف مشروع لقذائف النظام، الأمر الذي جعل الأطباء يخرجون الجرحى والمصابين من العمليات إلى صالة الانتظار وبينهم زينب، ثم إلى البدروم، تمهيدا لنقلهم إلى مستشفى اليمن الدولي، باستثناء زينب التي نقلت إلى مستشفى الرفاعي لإجراء العملية الجراحية هناك..

فتح مستشفى الروضة أبوابه أمام الجرحى من الثوار منذ بداية الثورة، كواجب إنساني ووطني، وفي ذلك اليوم تعرض لأكثر من 13 قذيفة دبابة، سقط على إثرها شهيدان وعدد من الجرحى الذين اكتظ بهم المستشفى حينها جراء القصف المرعب. كما تعرضت الطوابق العلوية للتدمير فيما بقي البدروم ملجأ للجرحى والنساء والأطباء.

ويعد مستشفى الروضة هو ثالث مستشفى ميداني يتعرض للقصف من قبل قوات صالح، وبنفس السيناريو مع اختلاف وسائل التنفيذ حيث تم اقتحام المستشفى الميداني في ساحة الحرية يوم محرقة الحرية 29 مايو 2011، وكذلك مستشفى الصفوة الواقع في الساحة، والذي تعرض لتدمير ونهب كامل محتوياته وأجهزته، كما تم اختطاف الجرحى منه، ولايزال مغلقاً حتى لحظة كتابة هذا التقرير. يأتي ذلك بعد أن حوّلت قوات صالح عددا من المباني الحكومية في تعز كمستشفى الثورة والمعهد الصحي وبعض المدارس ومكتب التربية وكاك بنك وقلعة القاهرة وجبل جرة إلى ثكنات عسكرية.

القصف يلاحق الجرحى
وفي الطريق كما قالت زينب: "تقطع لنا أفراد الحرس الجمهوري ونحن في سيارة الهلال الأحمر يسألون السائق: هل معك أحد من شباب ساحة الحرية؟؟، فتخلص منهم السائق بطريقته، كما سمعنا إطلاق رصاص في الطريق باتجاه سيارتنا". وفي مستشفى الرفاعي تمكن الأطباء من التكتم على الجريحة زينب من مباغتة الجنود بين الحين والآخر يسألون عن جرحى الساحة، تقول زينب: "لا أدري لماذا؟ لكنهم كانوا يبحثون عنا أينما ذهبنا، وقبل أن نكمل العملية الجراحية اضطر أخي لإخراجي من المستشفى، وحاول نقلي إلى مستشفى اليمن الدولي، غير أننا لم نتمكن فقررنا العودة إلى البيت، وهناك كان يأتي الطبيب لمجارحتي هناك".

حتى العودة إلى البيت، كانت صعبة هي الأخرى، فقد كان الرصاص يستقبلنا ويودعنا - تقول زينب - فقررنا اللجوء إلى بيت أحد الأقارب داخل المدينة، وهناك فقط تمكنت زينب من العلاج، حيث يشعر الناس بالأمن لخلو تلك المناطق من الحرس الجمهوري.. منذ ذلك الحين جافى النوم عيون المخلافية الثائرة، بسبب كثرة التشنجات واستمرار القصف الذي لاحقهم من الساحة إلى مستشفى الروضة إلى الرفاعي إلى الحارة والشوارع القريبة، في مشهد أقرب إلى أفلام الأكشن والسينما..

في ساحة الحرية أوقفت زينب المخلافي دارستها الجامعية منذ بداية الثورة، وقالت: "قسما لن أعود إلى الجامعة حتى يرحل ويحاكم النظام".. ها هي الآن تشعر أن نقصا طرأ على حياتها عندما فارقت الساحة، بسبب إصابتها التي أقعدتها في البيت، غير أنها توعدت هذا الجرح، وأقسمت عليه إن تأخر في التماثل للشفاء لتذهبن إلى الساحة من جديد. قالت: "فيا جرحي هيا قم ولا تتأخر وإلا فالعكاز بانتظارك".. وأكدت: "ليس العيب أن أمشي على العكاز، ولكن العيب أن أبقى في البيت كثيرا ولا أذهب إلى الساحة لمواصلة النضال"..

"الحصِب" أخو "الحَصَبَة"، و"الكوثر" أخو "الدائري"..
الدمار هو القاسم المشترك..
صباح جمعة لا حصانة للقتلة في الحادي عشر من نوفمبر 2011، استيقظت تعز على أصوات المدافع، أصوات مدافع ورصاص عشوائي موجه إلى البيوت والأحياء، وهكذا عاشت تعز ليالي وأياما غير معدودات، على جناح قذيفة أو في فوهة بندقية..

تدفع تعز ثمن تقدمها وتصدرها هذا المد الثوري العظيم، بفارق التضحية والوعي.. تقدم سيدة المدن اليمنية الثائرة من فلذات أكبادها الكثير والكثير..

كانت القذائف توزع هداياها على الأحياء والبيوت، إمعانا في بث الرعب في أوساط السكان ومنعهم من الخروج.. الجرحى في ازدياد، والكبار يصابون داخل الساحة وخارجها.. قذائف الإجرام تلاحق الشهداء والجرحى إلى داخل المستشفيات.. قصف مستشفى الروضة تزامن مع القصف الذي شنته قوات صالح على أحياء مختلفة من المدينة أسفر عن سقوط 13 شهيداً بينهم 4 نساء و5 أطفال. فقد استشهدت امرأة رابعة إلى جانب طفلة إثر قصف قوات صالح على منطقة الحصب بمدينة تعز، والذي كان قد بدأ منذ الصباح الباكر عشوائياً، وتركز على أحياء زيد الموشكي والروضة والأحياء المجاورة لساحة الحرية، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى. ومن بين هؤلاء الجرحى الدكتور عبدالله الذيفاني رئيس المجلس الأهلي. وقال نجله للمصدر أونلاين، إن د. الذيفاني أصيب برصاصة في ذراعه أثناء وجوده في ساحة الحرية وأسعف إلى المستشفى لتلقي العلاج. وقد أشعل القصف القنص غضب المتظاهرين الذين خرجوا بعشرات الآلاف في شوارع المدينة متحدين القصف الذي تشنه قوات صالح منذ فجر الجمعة على الأحياء السكنية بالمدينة وساحة الحرية. وردد المتظاهرون الذين خرجوا تحت شعار «لا حصانة للقتلة» هتافات تطالب بتقديم صالح ومعاونيه للمحاكمة الدولية.

وغير بعيد عن المكان، كان حي الكوثر المتاخم لساحة الحرية، يسجل واقعة إجرام أخرى في منزل الشهيد هاني الشيباني، خطته شقيقته الثائرة "وفاء" بدمه على جدار البيت (ارحل يا سفاح)، ثم عزفت لرثاء أخيها زغرودة الشهادة وأيقونة انتصار الثورة..

فعلها قيران قبيل صلاة الجمعة بساعة واحدة لا أكثر!! فعلها باتجاه المباني والبيوت والأحياء السكنية، وفجر رأس الشهيد هاني في صالة منزله.. عندها أدركت وفاء وكافة أبناء تعز أنه لا يفجر الجماجم ويقصف المنازل والأحياء إلا صالح وليس ثمة من يفعلها في اليمن إلاه، فجاء الرد من وفاء الشيباني مباشرا وعلى الهواء: ارحل يا سفااااااح.. سطرتها بدم الشهيد..

الشهيد هاني الشيباني.. هو الزفة والمهر، ودمه مسك الأبد
كانت أخته الثائرة وفاء الشيباني تبحث عن معجزة لتجميع وجه أخيها الشهيد، الذي لم تنظر إليه منذ الصباح، كان رأس الشهيد هاني الشيباني مهشما تماما، حين اختطت شقيقته وفاء من دمه، أيقونة الثورة وزغرودتها الأبدية.. كان هاني بانتظار طعام الإفطار، حين كانت أمه تعد له الطعام في المطبخ، فيما كانت قذيفة من مضادات الطيران، تتناول من رأسه وجبة كاملة..

حين تروي أم الشهيد وأخته وأشقاؤه، تلك الأحداث المؤلمة، يتملكنا الرعب.. كما لو أن قذيفة ستتسلل إلى جدار البيت، والمكان الذي زرناه ووصلنا إليه، من ثقب باب غرفة والده، أو من بقايا النافذة التي أهداها مستشفى قيران للخدمات العسكرية، موتا زؤاما إلى صالة المنزل..

كان لابد أن نتذكر أننا في تعز، التي تنتفض من رمادها كطائر العنقاء، ومازال في البيت ثمة هاني، يداعبه جده ويردد ذات الشعارات، ثائرا كعمه الشهيد الذي وشاه باسمه.. ليواصل مسيرة الثورة ومشوار البطل.. الشهداء كما الإيمان لا يموتون، فقط يستعيدون أرواحهم حين يرحلون

اقتبست هذه الأسرة من دم شهيدها، حناء الفرح، وما فتئت تنقش به لون الراية ومعنى الحرية، وكان الشهيد هاني الشيباني بارا بوالديه، وبيته الذي كان كل شيء فيه، ووطن مازال في أمس الحاجة إليه..

في الصباح يصحو حي الكوثر، على دم الشهيد وهو يضمخ الأزقة والبيوت بمسك الأبد. إذ كيف لحي الكوثر أن ينام، وفي غرف النوم شظايا قذائف ودم برئ طازج لا يموت.. وكانت زغرودة أخته الثائرة وفاء، إيذانا بعرس آخر لأخيها، وعنوانا لانتصار الثورة المباركة.

أما غرفة الشهيد، حالة من حالات الوطن الذي لا ينام، وروح هاني فواحة بداخلها.. وفيها مالا عين رأت، من أحلام الغد وأشواق المستقبل الأجمل، التي كانت تبيت مع الشهيد.. تعيش معه ليل نهار.. وفيها مجسم ذهبي، لامرأة ورجل يلبسها خاتم الخطوبة، وكان هاني غداة السبت على موعد مماثل.. لكنهم زفوه في جمعة تالية، في اليوم الذي كان فيه خاتم الخطوبة.. يلمع أكثر. كنا معهم، نشارك أهالي حي الكوثر، وقفتهم الاحتجاجية على الجريمة البشعة. نساءٌ ورجالٌ وأطفالْ، يرفعون صورة هاني الذي مازال لديه مسقط رأس، وإن ذهبت برأسه قذيفة..

بظفائر بنات المظفر
كتب العزيز جمال أنعم حينها أن "كل ثورة تتقدمها الشهيدات منتصرة لا محالة, وفادياتنا حفيدات الشهيدة الأم سميَّة أولى الثائرات, أم عمار زوج ياسر, الشهيد الكبير، الشاهد على كبرياء روح اليمن منذ البواكير. هي أسرتنا الرائدة في درب الفداء, ونحن بنوها الأوفياء... وفي صدارة هذا المشهد الفدائي لشهيدات تعز الغالية عزيزة, زينب, تفاحة, ياسمين, هو ذا الصنم المحروق يهوي تحت أقدامكن العالية, هو ذا يسقط مهاناً ممرغاً بالعار, تلعنه الأرض وتمقته السماء)..

اكتشف العالم بسقوطها قانون الثورة اليمنية وجاذبيتها..
الشهيدة تفاحة العنتري.. فاكهة الحلم والثورة
قبل 21 عاماً زفت الشابة تفاحة صالح العنتري لزوجها محمود عبد الوهاب الطيب، من منزل والدها المطل على ساحة الحرية حارة محطة صافر جوار المعهد العالي للعلوم الإدارية. كان عمرها 21 عاما أيضا. وحين اندلعت الثورة الشبابية السلمية عادت إلى ذات الساحة، تتلمس الذكريات وتشتم عبق المكان الذي سكنت إليه وتعلمت فيه أبجدية الحرية ذات يوم..

لم تتواجد الشهيدة تفاحة العنتري في ساحة الحرية صدفة، لم يكن ذلك وليد اللحظة، أو مشهدا عابرا، بل كانت حالة دؤوبة من النضال السلمي، مارسته من بيت الزوجية مرات عديدة منذ بواكير التعددية في اليمن. ثم عادت إلى ساحة الحرية لا لتبحث عن إرث بل لتبحث عن مجد، حنينا إلى الشهادة وليس إلى مسقط الرأس..

"لقد بيع منزل والدها منذ قرابة عقد من وفاة والديها - بحسب الزميل جلال المحيا، أحد أقربائها- ولم تعد تعرف من جيران طفولتها إلا منزلاً واحداً لجأت إليه مكرهة يوم حوصرت في محرقة الساحة. حيث قال ولدها عبدالوهاب عند تلك الليلة الفاجعة: كان أبي وأختي في البيت والبطارية خلصت على هاتف والدتي، فلم أجدها بعد المحرقة، رغم ترددي عليها منذ الساعات الأولى للتهديد الهمجي لنا بإخلاء الساحة، فقد كنت مع زملائي نبحث عنها وكانت هي أيضاً "مفجوعة" وتبكي عليَّ تضنني جرحت أو اختطفت أو استشهدت محروقاً في أي خيمة جرفتها الجرافات، وعند الساعة الثانية صباحاً علمت أنها في منزل صديقتها المطل على الساحة فذهبت إليها ولم نتمكن من العودة إلى منزلنا بالحوبان إلا ظهيرة اليوم التالي"..

وفي البيت الملحق بجامع الصالحين بالحوبان، كانت تفاحة هي كل شيء، بشهادة شريك حياتها الأستاذ محمود الطيب.. قال لي أثناء زيارة قمت بها إلى بيته بعد أيام من الحادثة: إنه كان يرى نفسه صغيرا أمامها، وإنها منذ عشرين عاما من زواجه بها، كزوجة ثانية، لم تجرح إحساسه مرة، أو حتى نصف مرة..."، إذ الطيبات للطيبين.. ويقول الطيب: لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدون حمامة البيت وتفاحة العمر.. مضيفا "شاركتني تفاحة كل صفحات حياتي، شاركتني الفقر والفاقة، شاركتني العطاء، شاركتني الشدة، رافقتني وكانت معي أشبه بالبدو الرحل من بيت إلى بيت ومن منطقة إلى منطقة ومن مدينة إلى مدينة. تفاحة كانت كل شيء في هذه الحياة ولا أتصور كيف ستكون حياتي من بعدها، ولكني أسأل الله أن يعطيني الصبر وأعاهدها أنا وأبناءها أمام الله وأمام الجميع أن نكمل ما بدأت به وسنحقق النصر الذي كانت تنتظره الحبيبة تفاحة"..

في البيت هي الزوجة الصالحة والأم القدوة، ولا يكاد يشعر زوجها وأبناءها بغيابها، إذ منحتها شخصيتها القيادية قدرة على تقسيم وقتها والقيام بأعمالها المنوطة بها على أكمل وجه.. فما أن تعود من الساحة إلى البيت، حتى تشرع في إعداد الأكل والكعك لليوم الثاني وكان ذلك ديدنها وروتينها اليومي..

وفي مجمع طيبة في الحوبان، هي التربوية الفاضلة والمدرسة الناجحة، التي تصر في كل مرة يلتحق فيها أحد أبنائها أو أبناء زوجها بالمدرسة، أن تعود لتدريس الصف الأول لتشرف بنفسها على تأسيسه منذ البداية..

وتقطع المسافات الطوال من بيت زوجها في الحوبان يوميا دونما كلل ولا ملل، إلى ساحة الحرية التي كانت تفاحة فيها هي قلب الثورة، والقيادية البطلة التي لم تتخلف عن مسيرة واحدة، إن لم تكن هي قائدة الركب وحادي القافلة. أسست "الحركة الطلابية" وكانت تخرج مع أبنائها الطلاب، لحمايتهم، وتقدمت الصفوف التي شهدتها تعز طيلة أيام الثورة، كما شاركت في لجنة الحشد ولجنة الدعم، وخلال شهر رمضان المبارك كانت تفاحة ذات يد طولى في مشروع إفطار الصائم.

في ساحة الحرية كانت خلية نحل، تقضي نهارها في الإشراف على التغذية تارةً، وتارة في تنظيف المصلى، وعندما تستريح تنهك جوالها وتستنفد رصيدها في حث زميلاتها وقريباتها لزيارة الساحة والمشاركة في المسيرات، بحسب الزميل المحيا أيضا..

أطلق عليها شباب الثورة بتعز، لقب أم الثوار.. بيد أن تفاحة، صفة تتعالى على كل الألقاب والتسميات.. إنها انحياز كامل للقيم والمبادئ الإنسانية المثلى.. لقد كانت الشهيدة تفاحة قيادية بالفطرة ومشهود لها بقوة شخصيتها وعزيمتها وإصرارها. يروي زوجها "يوم بلغت الثورة شهرها التاسع وتحديدا في يوم الجمعة، كانت تؤكد له بأن الثورة ستنتصر عما قريب"..

تفاحة صباح الجمعة
صباح الجمعة انطلقت تفاحة كعادتها إلى ساحة الحرية بتعز لأداء صلاة الجمعة. تقول ابنتها إسراء "قالت لي تأخري، وقبل أن تخرجي اتصلي بي، وبالفعل اتصلت بها فردت علي وطلبت مني أن أعمل لأبي الغداء، وبينما كنا نتحدث سمعت أصوات قذائف والنساء يصرخن، وبعدها لم أسمع صوت أمي إلى اليوم!! الحمدلله على كل حال".. حين انقطع الاتصال، هرعت الثائرة الشابة إسراء باتجاه الساحة.. تقول: "حين وصلت إلى الساحة، كان الذهول سيد الموقف، لا صوت يعلو فوق صوت القذائف سوى صوت الخطيب أحمد عبد الرب!!. وجوه المصلين يعلوها الحزن، ما الذي حدث؟ لا أحد يخبرني، قلبي يخبرني أن شيئا ما قد حدث، قلبي يقول لي بأن أمي لو كانت بخير كانت اتصلت بي وأخبرتني بذلك".. وتضيف "رحم الله أمي العظيمة.. أتذكر يوم استشهاد عزيزة الدهبلي، أنها قالت لي أنا الشهيدة القادمة!! وبالفعل كانت كما قالت بعد أقل من شهر"..

ظهر ذلك اليوم لم تعد الشهيدة تفاحة إلى منزلها كعادتها لأنها كانت مع موعد آخر مع حياة جديدة كانت تفاحة تنشدها وفي شوق إلى الانتقال إليها، قبل أن تخترق شظية رقبتها فتنتقل إلى الرفيق الأعلى.. تختتم إسراء حديثها قائلة "أمي طلبت إذا استشهدت أن ندفنها يوم انتصار الثورة وبإذن الله وأسأل رب العالمين بأن غداً سيكون يوم النصر"..

لقد ذهبت حمامة السلام ورفرفت عاليا.. ذهبت تفاحة حاملة معها العشب والطهارة، الفكرة الصحيحة عن الإنسان والهوية.. وغصن الزيتون.. حالمة بعيد الأرض والأيام الخضر التي لا يحاصرها الجوع والجرع.. فمن موت الشهيد.. تولد الحياة من جديد.

نشاطها المدني ومشاركتها السياسية الفاعلة، وتربيتها للصفوف الأولى، ومصلى النساء الذي كانت تحاضر فيه، وعمرها الذي لم يتجاوز الثانية والأربعين، ومشهد القتل الذي هز ضمير العالم، أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن تفاحة العنتري هي فاكهة الحلم والثورة.. وحين سقطت تفاحة شهيدة في ساحة الحرية، اكتشف العالم بسقوطها قانون الثورة اليمنية وجاذبيتها..

حصلت على إجازة الإفتاء ضمن 40 عالما وعالمة في تعز..
الشهيدة زينب الحزمي.. ريحانة المساجد وأيقونة الثورة
"في آخر يوم رأيتها فيه كان محياها يشع نوراً لا يمكن التعبير عنه" هكذا قالت سمية شيبان إحدى أقرب صديقات الشهيدة زينب الحزمي أثناء زيارتنا لمنزل الشهيدة..

سل عن الشهيدة زينب جمعية معاذ لخدمة القرآن والسنة وجامع الإيمان، سل عنها مسجد أم القرى ومركز الزهراء، سل عنها حوض الأشراف وساحة الحرية. سل عنها الفقراء والمرضى، الجرحى والمصابين. نساء الحارة وأطفال الجيران، جدران البيت وسجادتها المعطرة. سل عنها مشائخ العلم ومساجد تعز، وحركة شباب 11 فبراير.. فزينب الحزمي هي كل الصفات الحميدة، والشرف الرفيع..

يزداد شغفها بوطنها المنشود، كلما أشرفت فجر كل صباح من نافذة بيتها المطل على جانب من مدينة تعز وساحة الحرية ومستشفى الثورة العسكري!!. هي زينة البيت وريحانة الثورة وزهرة الساحة، وهي المعلمة والشيخة الجليلة، والحنان والدف لكل إخوانها وأخواتها وأبنائهم جميعا.. بعد محرقة ساحة الحرية بتعز في 29 مايو 2011، واستعادة الثوار ساحتهم، عملت الشابة الثائرة زينب الحزمي ضمن تكتل "مناضلات ثورة اليمن" وكانت أكثرهن نشاطاً وحيوية في تقديم الأطباق الخيرية ومساعدة الجرحى وأسر الشهداء وأمضت ليالي حتى الصباح لتنقش بأناملها وخطها الجميل شهادات الجرحى، بالإضافة إلى مشاركتها في كتابة اللوحات في المسيرات وفي الفعاليات المختلفة..

وهي قبل هذا وذاك أستاذة التنمية البشرية والقيم الإنسانية بامتياز، والحافظة لكتاب الله إجازة وسندا وسلوكا.. الحاصلة على إجازة مفتية وتخرجت من جمعية معاذ العلمية بتعز ضمن 40 عالما وعالما أجيزوا من كبار مشائخ تعز، بعد خمسة أعوام عكفت خلالها لتنهل من العلوم الشرعية، وعامين قبلها في مركز الزهراء التابع لجمعية معاذ، حفظت خلالها كتاب الله تعالى إجازة وسندا، وحصلت على درجة الامتياز في بحث تخرجها من دار العلوم الشرعية الذي كان عنوانه "أمة اقرأ.. آن لها أن تقرأ"..

سل عنها مؤسسة التواصل للتنمية ومشروع الشفيع الذي عملت ضمنه كمدرسة في مدرسة الإيمان بحي كلابة.. سل عنها مسبحة الليل وقنوت السحر وكتاب الله، سل عنها لجان النظام النسوية التي عملت فيها منذ بداية الثورة، وسل عنها قذائف النظام: لماذا اختارت زينب الحزمي وأخواتها من مقدمة الصفوف قبل أن يصعد الخطيب على منبره، وسل الجموع الهادرة التي خرجت لتشييع جنازتها بعد يوم واحد فقط من استشهادها بعيون دامعة وأفئدة يعتصرها الحزن والألم..

كانت مساهمة زينب قوية في خدمة الثورة، مسؤوليات عظام، ومهام جسام، جعلت من زينب عنصرا أساسيا، وسندا فاعلا في معترك التغيير السلمي، وأدت مهمتها النضالية في نشاط متعدد الأشكال.. بينما كان كتاب الله يمنحها إشراقات ربانية، كلما عادت من الساحة ووقفت بين يدي ربها تدعو للثورة والثوار..

روح تظافرت فيها كل مقومات وعناصر الجمال الإنساني، فتجلت آيات إبداعها ذوقا رفيعا، في خطها الجميل الذي وشت به لوحات الثورة، ولافتات المسيرات، وشهادات الجرحى، وفي صوت شجي رتلت به كتاب الله، فشنفت الأسماع وخشعت له القلوب.. وكانت الشهيدة زينب ذات ال25عاما، تحلم بشراء ثلاجة للمستشفى الميداني، قبل أن تدخله كواحدة من ضحايا النظام، وشهيدات الثورة، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

تقول أم زينب إنها كانت منذ طفولتها طائعة بارة وحافظة للقرآن، بل كانت المعلمة والقدوة لأطفال ونساء الحارة.. مضيفة بأنها عندما بدأت الثورة كانت تخاف عليها، لكن زينب كانت تقول لها: "نحن مع الحق ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".. وعن يوم استشهادها روت أم الحافظة زينب أن القصف يوم الجمعة كان عنيفاً، لكن زينب أصرت على الخروج وودعت أمها قائلة لها: ادعي لي بالشهادة، ثم عطرت سجادتها وخرجت إلى الساحة.. تمام الواحدة والنصف ظهراً تلقت أم زينب نبأ استشهاد ابنتها.. فانصدمت وحزنت كثيراً وأصرت الأم على الخروج للمستشفى، تقول "كلما كنت أحضنها أحس أني ما ارتويت وظليت أحضنها وأحضنها" وبصوت حزين وحرقة قالت "الله يقتل من قتل فلذة كبدي وقرة عيني، الله يحرق قلبه وينزع قلبه مثلما نزع قلبي".

أما زميلتها وصديقتها سمية مدهش فعرفت زينب طالبة مجتهدةً تتميز في مذاكرتها واجتهادها ومتابعتها للمشايخ. لم تكن تحب تضييع الوقت في اللهو واللعب، وفي أوقات فراغها كانت تحب مراجعة المصحف معنا لأنها حفظته قبل أن تدرس العلوم الشرعية، كانت دائماً تراجع المصحف، وتشجعني على حفظ القرآن.

وتسرد أختها صباح الحزمي جانبا من يومياتها فتقول: "كل حياتنا هي أختنا زينب، درست إلى الثانوية في مدرسة خديجة، كانت تحافظ على صلاتها، صلاة الضحى لا تقطعها أبداً، كانت تتأخر على الحصة الأخيرة فتسألها معلمتها: لماذا تأخرت؟ فتقول لها: كنت أصلي صلاة الضحى". مضيفة "تبدأ زينب يومها من قبل الفجر تستيقظ 3 صباحاً وتقوم الليل إلى 4 من حفظها، ثم تيقظ والدتها، وبعد ذلك تصلي الفجر ثم تنام قليلاً، وفي الصباح تقوم بأعمال المنزل إلى 7.5 ثم تذهب إلى المدرسة تدرس قرآن بمعهد الإيمان ثم تعود إلى البيت وتفطر بالموجود لا تُضيق على أصحاب البيت، ثم تجلس لمراجعة القرآن، وإذا في شغل في البيت تشتغله وإلا فإن كل حياتها للقرآن الكريم".

وعن حضورها المسيرات تروي صديقتها سمية مدهش "أنا كنت معتادة إنه إذا في مسيرة نمشي مع بعضنا، نمسك بعضنا البعض، وكنا نقول نموت سوياً، ونعيش سوياً. حتى يوم استشهاد عزيزة رحمها الله، كانت تقول لي يا سمية نمشي أنا وأنت نموت أنا وانتي، ولكن إذا استشهدت جنبك أمانة يا سمية لا تخلي أحد يلمسني، ولا تخلي أحد يفتشني ويصورني. أمانه كفنيني، وأمانتك أهلي. كانت لآخر لحظة ونحن دائماً مع بعض، لا توجد مسيرة حصل فيها ضرب إلا وكنا فيها سوياً". وتضيف سمية "كانت تحب الثورة بعمق، كانت تحب أن تشارك بأي شيء، إذا فاتها مهرجان أو مسيرة تتصل بي وتعاتبني بشدة. الآن نتذكر زينب بخطها الجميل؛ كان فعلاً خطها رائع جدا، ولديها مشاركات في منتدى الخطوط، شهادات الجرحى أغلبها بخطها؛ بقيت ثلاثة أيام متواصلةً تكتب شهادات الجرحى"..

روعة آخر أيامها سجلته ذاكرة شقيقاتها إذ أنها لم تنم طيلة الليل بل أقامته كاملاً، طلع الصباح عليها وهي فرحانه كالعصفور الصغير كما روت أختها الكبرى وكأنها ستذهب إلى الجنة. "يوم الجمعة الصباح كانت زينب إنسانة ثانية، بكرت تغتسل، غيرت ملابسها، لاعبت أولادنا كالعادة عندما تأخذهم إلى الساحة، حتى في العيد قلنا لها أجلسي معنا يا زينب تقول لنا لا، وأخذت الأولاد إلى الساحة، وكانت حياتها أن تنتصر الثورة. وقبل استشهادها بيوم سألتها من أين لك هذه الساعة (ساعة ذكر) دورت واحدة مثلها وما حصلت؟ قالت: باقي لي يوم وبعطيها لك!! وكنت مع أمي وأخواتي نقول: ليش يا زينب، ليش تقولي هذا الكلام؟ قالت هكذا.

إحدى مدرساتها قالت لها أيش هذا الجمال اليوم يا زينب! اليوم انتي ثانية!. قالت ليش انت مش عارفة أني بكون شهيدة؟!.

كانت تنوي إقامة عرسها في المنصة فزفوها ولكن إلى الفردوس..
الشهيدة ياسمين الأصبحي.. معطاءة كأمها اليمن
اليمن أم ياسمين.. أم هما توأمان.. معطاءة كأرضها.. فهي بنت اليمن.. وهي المعادل الموضوعي لكل ما سيعيشه اليمنيون من جمال، أو يفتقدونه.. وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة..

أدركت الثائرة ياسمين سعيد سيف الأصبحي، المولودة في أصابح الحجرية عام 1987، مهمتها الوطنية مبكرا، واتخذت من مفاهيم التغيير والتجديد، استراتيجية عمل، وميدانا لانطلاق مواهبها وأشواقها، في صناعة الفرحة الحياتية، وإعادة صياغة الإنسان عبر التدريب والتأهيل..

فإلى جانب دراستها في كلية التربية قسم التربية الخاصة، بجامعة تعز، وهي الأخت الصغرى لسبعة إخوة ذكور وأختين، حصلت ياسمين على تسع شهادات في دورات تدريبية متنوعة.. كانت آخرها دورة في الإسعافات الأولية من أكاديمية التدريب الحقيقية بساحة الحرية بتعز، وقد تشرفت الدفعة الأولى من خريجات هذه الدورة بتسميتها باسم الشهيدة ياسمين الأصبحي..

بعد محرقة الساحة في التاسع والعشرين من مايو 2011، بذلت الشهيدة ياسمين كل ما في وسعها، في سبيل ترميم ما تشوه من جماليات المكان، ووجه الساحة الثورية، التي شهدت أبشع محرقة في التاريخ العربي.. ولا تزال منصة ساحة الحرية بتعز، تزهو وتتبختر ببساطها الأخضر الذي اشترته لها الشهيدة ذات يوم، وحملته من المتجر إلى ساحة الحرية بيديها هي وزوجة أحد إخوتها..

باعت أغلى ما لديها دون علم أحد من أقاربها أو خطيبها الذي ذهب للعمل في الجارة السعودية كي يعود ظافرا بما يمكنه من تكوين بيته السعيد. باعت ياسمين دبلة خطوبتها من أجل إتمام مراسيم العرس اليمني الكبير، إذ كانت بانتظار فجر يوم صبيٍّ، لتقيم فرحة زفافها هنا، بساحة التغيير، بحسب حديث أهلها أثناء زيارتهم، غير أن القذيفة حالت بينها وبين أحلامها وطموحها. فيما لا تزال تعز الحالمة حبلى بالطموح والطامحين..

كانت ياسمين تبحث عن سعادة للجميع، وبذلت جهدا عظيما لكي تقوم بزيارة عشرات الجرحى والمصابين في العيد لإدخال السرور عليهم، هي وزميلاتها، وبمجهود ذاتي وفردي، والسلام عليهم بظروف فيها مبالغ مالية رمزية مع كعك العيد. كانت قوية الإرادة وتمتلك شخصية قوية بالرغم من صغر سنها. وتضيف إيمان: منذ بداية الثورة في 11 فبراير تمنت ياسمين أن تكون من شهيدات الثورة.. فقد كان نشاطها في البداية يتمثل في مشاركتها بالمسيرات اليومية.. وبعد ذلك كانت تقوم بجمع تبرعات لصالح الثورة وتساعد في إنجاز الاحتياجات اللازمة وعمل الأطباق الخيرية.

وفي جمعة "لا حصانة للقتلة" استشهدت ياسمين، مع رفاق الدم والخلود تفاحة وزينب ومن قبلهما عزيزة الدهبلي.. للتاريخ هنا دلالته ووقعه الخاص.. فقد تكرر الرقم 11 في رقم اليوم والشهر والعام، وأحد عشر شهرا من عمر الثورة المباركة، وأحد عشر شهيدا سقطوا في ذلك اليوم، ومن بينهم الشهيدة الشابة ياسمين الأصبحي التي ارتدت فستان الزفاف الموشى باللون الأحمر والمعطر بالمسك في عرس لانهائي.. هو عرس الشهادة..

وفي جمعة لم يكن خطيبها قد صعد إلى منبر الثورة، حين تهاطلت قذائف السفاح على فندق المجيدي المطل على منصة الساحة ومصلى النساء.. تراجعت الشقائق إلى الخلف قليلا بما يمكنهن من أداء الصلاة على بعد أمتار فقط من مكان سقوط القذائف، باستثناء ياسمين وزينب الحزمي وأمهن تفاحة العنتري، فقد عزمن على البقاء في أماكنهن حيث أقيم لهن عرس الاستشهاد فيما بقيت الثائرة الجريحة زينب المخلافي كشاهد عيان تروي لليمن تفاصيل المجزرة.

ويروي خالد الأصبحي شقيق الشهيدة، أنه أثناء قيامه بتصوير حشود المصلين أثناء خطبة الجمعة في مصلى الرجال، أعلن الخطيب عن أسماء شهيدات تلك الجمعة الدامية الشهيدة ياسمين ورفيقتيها، ليغمى عليه وتسقط كاميرته من يده، فيما كانت كاميرا أخرى ترمقه عن قرب وتنقل للعالم تراجيديا المأساة..

لم تمت ياسمين.. فمازال عبق سيرتها ومسك دمها الطاهر، يخضب الرمل والإسفلت.. عبق لا يخص ساحة الحرية، أو تعز وحدها..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.