يعول أغلب اليمنيين كثيراً على مؤتمر الحوار الوطني المرتقب، ليحدث انفراجة في الحياة السياسية، ويشكل أساساً لبناء الدولة باعتبارها الضامن الوحيد للاستقرار والتنمية والمساواة والعدالة الاجتماعية. معضلة اليمنيين المؤرقة منذ قيام الثورة، إلى اليوم، أنهم لم يجربوا الدولة، ولم يترسخ مفهومها في أذهانهم، ولم يتشكل لها أساس في حدوده الدنيا، وتبعاً لذلك كانت معظم التيارات السياسية تنشط في بيئة غير سليمة، دون أن تكون الدولة جزءاً في أجندتها..
وفي ظل تراكمات وضع كهذا، كان فيه "شكل الدولة" هو الاكثر ضموراً، لم تفلح معه الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد مطلع 2011، في الارتقاء بمنهج كثير من القوى إلى مستوى حلم الدولة، قُدّر لمؤتمر الحوار الوطني أن ينعقد، بمشاركة أطراف لا تفكر كثيراً – وربما مطلقاً- بتحقيق الدولة كمفهوم أشمل تندرج في إطاره آفاق الحل لكل المعضلات الأخرى، مهما بدت مستعصية، كونها كانت من نتاج غيابها بامتياز.
وإذا ما بيّت شركاء الحوار نيتهم بخوض الحوار "شور وقول"، وبنتائج متيبسة، محددة سلفاً، حول أي قضية محل النقاش، فحتماً لن تكون هناك نقطة التقاء مُرْضيَة للفرقاء عديمي الثقة فيما بينهم غالباً.
مفاوضات الأيام الاخيرة حول نسبة التمثيل في مؤتمر الحوار كشفت أن بعض القوى تسعى للاستحواذ على أكثرية تتمكن من التمرير أو يكون لها ثقل يؤهلها للتعطيل، دون اعتباره مهمة وطنية تقتضي التجرد، واستشعار المسؤولية بعيداً عن الاصطفافات المسبقة والحلول المعلبة.
حتى الآن لم يبادر أي من أطراف الحوار أو رعاتها بالمبادرة بتقديم تنازلات توفر مناخاً ملائماُ كفيلاً بإنجاح الحوار مهما بدا رمزياً.. فلا الدولة باشرت تنفيذ ما أمكن من النقاط العشرين التي أوصت بها اللجنة التحضيرية الرئيس والحكومة لتوفر أرضية ملائمة للحوار، رغم أنها لم تقدمها كشرط للبدء في الحوار، ولا بادر بعض شركاء الحوار بإعلان تخليهم عن السلاح، أو فض علاقتهم بأي قوى مسلحة تحسب بالضرورة عليهم، ما يوحي أن منها من لا زالت تعتزم خوض الحوار، وتحتفظ بكل خياراتها الباعثة على الصراع الدموي.
وكم يكون مستفزاً أن يجاهر قائد جماعة مسلحة بالحديث عن تطلعاته للدولة المدنية، لكنه يشترط تخلي ”الآخر” عن السلاح أولاً حتى يفعلوا، ومع ذلك لن يعدم مبرراً يسوقه لاستمرار الحفاظ عليه، في إصرار على البقاء في خانة أمراء الحرب.. ومحال ان يجتمع خيار الدولة وأمراء الحرب في بلد واحد..
قطعاً لا توجد مشكلة مع أي حزب او جماعة سياسية قائمة ببرامجها، أو شخصيات سياسية او إجتماعية ايا كانت اهدافها طالما أنها تتنافس للوصول إليها بوسائل ديمقراطية دون ان تستقوي بأدوات يفترض أن لا تكون إلا محايدةً تحت سلطة مؤسسات الدولة..
من حق جميع القوى والجماعات ان تسعى للوصول إلى سدة السلطة، إذ لم يعد جنحة اتهام حزب أو تيار سياسي يعمل بأسس سليمة بأنه يسعى للوصول إلى السلطة، فالحزب ليس جمعية خيرية تقدم خدمات دون مقابل أو طموح، لكن ينبغي لهذا الطموح أن يكون معبراً عن تطلعات شرائح متنوعة في المجتمع، دون أن ينكفئ على فئة بعينها، ليحكم الجميع بأسس دولة قائمة لا تتبدل قيمها بتغير الحاكم.
وأي مشروع، يخوض الحوار دون هدف الدولة، لن يصمد مهما تراءى للقائمين عليه أنهم يعبرون عن فئة أغلبية كانت أو أقلية، ولعل تجربة القاعدة التي فرضت الأمن والاستقرار مؤقتاً في مناطق نفوذها أكثر من أي دولة حضرت سلفاً، أثبتت أنها مشروع متخلف غير قابل للاستمرار.
الشعب اليمني سئم حكم العرف والعادة والمزاج، وآن له أن ينعم بدولة مؤسسات محترمة، تحكم الجميع، وتحفظ مصالحهم وتحميهم، وتضمن العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون، وينبغي أن يكون هذا هدفاً نبيلاً، لا غنى عنه بالمطلق.
أما خوض الحوار "شور وقول" فلن يفضي سوى لمزيد من الصراع والانهيار، وهذا ما ينبغي أن يستوعبه جميع المشاركين، إذا كان في أجندتهم وطن ومواطنة.