بالمفهوم العام والبسيط يمكن لأي شخص أن يفهم الدولة المدنية في وجهة نظره بأنها الدولة التي تتسم بثلاث سمات: أ) أن يسودها الحاكم بالقوة الأخلاقية للقانون وليس بالقوة العسكرية، فالقانون ينظم شئونها وينظم تداول الحكام والكفاءات على قيادتها، ويعمل على تطويع السلطة أو القوة العسكرية تحت السلطات المدنية.
ب) أن توفر لكل مواطنيها الحياة المدنية التي تمنح الفرد التعليم المتقدم والرعاية الكاملة لكافة احتياجاته وبناء المؤسسات الزراعية و الصناعية وفي مختلف العلوم، وهذا يعني عدالة وكفاءة تنفيذ مشاريع التنمية لأبناء المناطق الريفية والحضرية في الدولة المدنية.
ج) تنظيم حياة الناس واحتواء الجميع، وهو ما أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم في دولة المدينة ليعيش فيها المسلمون وغير المسلمين (دولة المواطنة) في إطار نظام مكتوب ومتفق عليه من الجميع، وهذا يعني أن الدين من أهم مكونات الدولة المدنية.
* من أين تأتي مدنية الدولة ؟ يمكنني القول أن صفة (المدنية) هي صفة أساسية لازمة للدولة ومتعدية لكل مكوناتها.. وإذا كان المفهوم الحديث للدولة يتضمن (الحكومة والشعب والأرض) فإن مدنية الدولة تعني مدنية الحكومة (السلطة)، ومدنية الشعب ومدنية الأرض، ولذلك فإن مدنية الدولة ماهي إلا منتوج مركب من تلازم مسارات المدنية في محددات الدولة الثلاثة.
وهذه المدنية لا تأتي من فراغ بمعنى أن لها ركيزة أساسية تشكل الرابط الأساسي بين هذه المكونات الثلاث، وهذا الربط لن يكون إلا توافق الإرادة العامة للناس على هوية مشتركة جامعة، ثقافية، حضارية، قيمية، تأريخية، تمثل ركيزة لمنظومة القيم التي تكفل التوافق الممكن بين الدولة الشعب في النطاق الجغرافي للدولة ومنها(تنبع قيم الحق والعدل المواطنة والعدالة الاجتماعية...) ونحن في اليمن لم تمثل المرجعية الإسلامية محل خلاف بين كل الشعب والقوة الموجودة.
أيضا أن مدنية الدولة هي أنها ضد تغول تسلط الدولة التي تغول فيها الحاكم على الشعب أرضا وإنسانا، ومنظومة القيم، فلا يمكن أن تكون الدولة مدنية والحاكم فيها مستبد أو متغول أو قاهر الإرادة الأفراد وحقوقهم القيمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وكما يقول الدكتور الأفندي رئيس المركز اليمني للدراسات الإستراتيجية مدنية الدولة «يعني مدنية السلطة والشعب والأرض.. وذلك يعني أن هناك علاقات أساسية عمودية وأفقية بين هذه المكونات الثلاث للدولة المدنية».
مدنية الأرض: تعني أن العلاقة العفوية التي تقوم بين أفراد المجتمع الذين يعيشون ويقيمون في هذا النطاق الجغرافي للدولة، تقوم على مفهوم المواطنة ت وهي مواطنة متساوية قائمة على التزامات تعاقدية، يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وعدم التمييز على أساس الدين أو اللغة أو العرق، فالناس سواسية أمام القانون.
كما أن مدنية الأرض تعني النهضة والعمران لهذا النطاق الجغرافي والعدل والإنصاف في توزيع الثروة والدخل، إن النهضة والعمران والحداثة الإيجابية لا يمكن إنجازها إلا في ظل استقرار سياسي واجتماعي وعمل مستمر، وهذا لا يتحقق إلا في ظل التعايش والتسامح والقبول بالأخر وسيادة القانون والعدالة على الجميع من أجل الجميع.
مدنية الشعب: تعني أن الشعب مالك السلطة ومصدرها، فالشعب هو من يختار حكامه وله حق عزلهم، والحكام ماهم إلا وكلاء عن هذا الشعب.. أجراء للشعب وليسوا مالكين للشعب، وهذا يعني أن العلاقة بين الشعب والحاكم علاقة اختيار حرة علاقة تعاقدية تقوم على أساس عقد مدني اجتماعي و لا يكون هذا العقد صحيحا إلا برضى الشعب ورضا الإرادة العامة للناس وفقا لتفسير الفيلسوف جون لوك(ومن ثم فهو عقد اجتماعي يتأسس على الاختيار الحر، وهذا لا يقع إلا في إطار عملية ديمقراطية حقيقية تحقق التداول السلمي للسلطة، وما هذه الديمقراطية إلا أحد المظاهر الأساسية لمدنية الشعب، أما المظهر الآخر فهو قيام العلاقات التعاقدية بين الناس على قيم ومبادئ العدل والمساواة والحرية والكرامة وسيادة القانون والدستور التي يكون مصدرها الهوية الجامعة المشتركة للمجتمع(الشريعة الاسلامية).
ومن جانب آخر فإن مدنية الشعب تعني أن السلطة التي تنشأ باختيار الشعب تكون أكثر مسئولية في رعاية علاقات أفقية بين أفراد الشعب وتتسم بالعدالة والإنصاف ومن شأنها أن تنتج دولة المواطنة.. دولة الشعب، وليس دولنة الشعب.. وبهذا المفهوم يتأسس نمطا متميزا للعلاقات الاجتماعية قائما على أساس التعايش والتسامح والقبول بالآخر والتعاون والمساواة في الحقوق والواجبات.
وثمة بعدا اقتصادي لمدنية الشعب، وهو الفكاك من ربقة الفقر والبطالة والتهميش الاقتصادي؛ لأنها شكلت متكئات للاستبداد فضلا عن لآثارها الاجتماعية والسياسية السلبية.. فقد اقترن الاستبداد بالفقر في كثير من الحالات وأصبحت الثروة والمال أداة الحكام المستبدين في تثبيت النظام السلطوي القهري، فقد بادل المستبدون المنافع المادية بالحقوق السياسية التي أدت في النهاية إلى سحق الطبقة الوسطى وصعود الطبقة الانتهازية المتحالفة مع نظام التسلط والاستبداد وتكوين شبكة محسوبية مرتبطة بمنظومة الاستبداد.
فإذا كانت مدنية الشعب هي مسألة ضرورية وحيوية في استقرار المجتمعات وتحقيق العدالة والإنصاف لجميع المواطنين فغن ضمان ذلك لا يكون ممكنا إلا بتحقيق(مدنية السلطة).
مدنية السلطة إن مفهوم مدنية السلطة هو أن السلطة ينبغي أن تنشأ وفقا للإرادة العامة للشعب ولي وفقا للإرادة الخاصة، وأن يكون معيار تكوينها ليس اصطفائيا سوى كانت الاصطفائية سياسية أو اجتماعية أو دينية.
ففي إطار مدنية السلطة لا حق لجماعة سياسية ولا لحزب معين أو سلطة معينة أن تدعي ان لها امتيازا خاصا سياسيا كان أم أخلاقيا في حكم الناس، وسواء كان مصدر الامتياز شرعية ثورية أو شرعية نضال معين أو شعرية إنجاز محدد، فالعمل السياسي هو شأن المجتمع والسلطة ليست إلا معبرة عن الإرادة العامة للمجتمع السياسي ومن ثم لا مكان في مدنية السلطة لدور القائد للدولة والمجتمع.. والسلطة القائمة على إبقاء الاصطفائية السياسية هي سلطة الشعب المتكئة على الاختيار الحر المباشر وفقا لمبدأ التداول السلمي للسلطة والانتخابات الحرة والنزيهة.
وبطبيعة الحال فإن في إطار مدنية السلطة لا مكان لامتلاك الحزب للدولة أو ملكية الدولة، فلا يحق لحزب اختاره الشعب لفترة زمنية محددة أن يسخر الدولة لمصلحته الحزبية او الفئوية أو العصبوية او المذهبية أو المناطقية... ثمة فصل تام بين إدارة الحزب للدولة وبين امتلاكها.
ولا ريب أن مضمون مدنية السلطة إنما يتأسس على قواعد قيمية وسياسية ومجتمعية مثل قيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص.. وهي القيم التي تحمي المجتمع من سعي المستبدين إلى تأبيد السلطة وتوريثها لأبنائهم.
وفي الختام.. إن المشاركة الواقعية لمدنية الدولة في وقتنا هذا ينبغي أن ننطلق من مسألة في غاية الأهمية.. وهي تجاوز الصراع الكلامي والمطاردات الفكرية.