الحديث عن الشواذ في المجتمع العربي المسلم أشبه ما يكون بالخوض في حقل ألغام. ذلك أن المحذورات الواجب التوقي منها في أمور الدين، وثقافة المجتمع، والعلاقات الجنسية، تجعل أي خطأ أو سوء فهم مدعاة لتكفير القائل أو تفسيقه، أو على الأقل نبذه من المجتمع المحيط به، لكونه قال ما لم نسمع به في آبائنا الأولين. وكلما طُرح الموضوع في الإعلام تبدو مطالب من أفراد المجتمع منصبة في الجانب الدعوي. فغالبية المشاركين يدعون للإكثار من المحاضرات والأشرطة الصوتية التي تنادي بالتمسك بالدين، والالتزام بقواعد الشريعة، والتذكير بعقوبة مرتكبي الفاحشة بين المثليين من الجنسين، وما أصاب قوم سيدنا لوط من خسف وإمطار بالحجارة! هذا المطلب لقي استجابة لدى أحد مراكز تحفيظ القرآن في الدولة، والذي أعلن إطلاق سرايا لمواجهة ظاهرة ما بات يعرف ب (البويات)، وهي المصطلح المستقى من كلمة (Boy) الإنجليزية، ويقصد بهنّ السحاقيات والمسترجلات من الإناث. تلك الظاهرة التي تزداد انتشاراً في المدارس والجامعات على وجه الخصوص، وبعض الأماكن العامة كالحدائق ومراكز التسوق. ورغم أهمية التذكير الشرعي في هذا الجانب، فإن المشكلة في تقديري تكمن في خطأ التشخيص أكثر منه في وصف العلاج. ذلك أن الطبيب الحاذق يعرف يقيناً أن وصوله إلى الداء يُعَدّ بمثابة قطع نصف الطريق لوصف الدواء. وإذا كانت استنتاجاته في تشخيص المرض خاطئة، فإنه يقيناً سيؤدي بالمريض إلى المضرة حين يصف له دواء لا يوافق علته. وعوضاً عن أن يتعافى المرء من مرض واحد، فإنه قد يجد آلاماً جديدة وافته بسبب ذلك الدواء الذي لا يعالج داءه الأصلي. والأكيد أن ظاهرة كتلك لا تعزى إلى سبب واحد دون غيره. فهناك أولاً حالة العولمة التي طبعت الحياة في المجتمعات العربية بطابعها، واستقرت في النمط المعيشي والاجتماعي العربي خلال العقدين الماضيين. ومعها جاء مفهوم الحرية الشخصية التي تشمل حق الشاذين جنسياً في الظهور على العلن، وما يستدعيه ذلك من واجب من المجتمع في قبولهم كما هم، وعدم النظر إليهم باعتبارهم «شاذين»، إنما مختلفين في توجهاتهم الجنسية فحسب. وبالتالي فإن على الدول تشريع القوانين التي تمنحهم حقوقهم وتجرم التمييز الذي يمارس بحقهم. وقد فاقم من تلك الظاهرة بشكلها المعاصر غياب دور الأسرة في التربية والتوجيه والرقابة على الأبناء. وهو أمر يمكن أن يُعزى بقوة إلى حالة الرفاه التي سادت المجتمعات الخليجية خصوصاً والعربية عامة، وهو ما أدى إلى انتشار الثقافة الاستهلاكية المادية على هذه المجتمعات. فكانت النتيجة الطبيعية لذلك الوضع +هو التردي الواضح الذي نشهده في قيم أبناء الجيل ومفاهيمه وسلوكياته. يزيد من سوء التشخيص للمشكلة أن هناك الكثير من الحالات التي توضع ضمن خانة الشذوذ الجنسي على عكس الحقيقة. ففي بعض حالات الذكور، يكون الشخص قد تربى ضمن أسرة تغلب عليها الفتيات، فيتطبع بطباعهنّ أكثر من أصدقائه وزملائه، فيذهب البعض إلى أنه مخنث. وفي حالة الفتيات، هناك من لا تكترث مطلقاً للزينة والتجمل اللذين هما من طبائع الإناث في العادة، وذلك لأسباب دينية أحياناً أو للطبيعة الشخصية الأميل للصلابة لدى بعض بنات الجنس الناعم. وهذا النوع من الفتيات يطلق عليه في الغرب اسم (Tomboy، أي الأميل للصبي منها للصبية) لأنها ليست على اتصال اجتماعي قوي بأنوثتها. ولكن ذلك في مجتمعاتنا يكون مدعاة للخلط بينها وبين المسترجلات من النساء. إضافة إلى ذلك، الحقيقة العلمية التي يتعامى عنها البعض، وهي أن بعض تلك الحالات الاجتماعية تختلط بحالات مرضية ناتجة عن اختلال الهرمونات والأمراض الجينية الموروثة منذ نشأة الجنين في الرحم. *** ولعلنا لن نستطيع أن نرسم صورة واضحة لمقدار تفشي الظاهرة وعمقها في المجتمعات المختلفة دون وجود إحصائيات دقيقة تمكننا من معرفة حجم هذا الداء ومدى استشرائه في جسد المجتمع. وحتى يصل الباحث إلى تشخيص صحيح للمرض، فإنه بحاجة لأن يتجاوز العرض، وذلك بأن يبحث في أسبابه ودواعيه. وفهمنا للعلاقات الجنسية المثلية يستدعي منا البحث أولاً في العلاقة غير السوية بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا العربية، وخاصة القبلية. وهذه النقطة وَحدَها هي التي سأتعرض لها في هذا المقام. فالمرأة بالنسبة للرجل في مجتمعاتنا هي أحد مناطق التحريم القطعي، وأنا هنا أتحدث عن التحريم الاجتماعي لا التحريم الديني. ورغم أن البعض قد يحتج بالنصوص الشرعية التي تؤكد أن «النساء شقائِقُ الرجال» و{ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ }، وغيرها من النصوص التي تؤكد مساواة المرأة مع الرجل في الشرع، فإن ذلك لا يعني أن تلك النصوص تم تطبيقها على الأرض. ولعل هذا الأمر لا يحتاج إلى الكثير من التدليل، ذلك أن نظرة عابرة لما يجري في مجتمعاتنا العربية (الخليجية تحديداً) يرى أن النساء لسن، في التطبيق العملي، شقائق الرجال! بل على العكس من ذلك، فإن ما يحدث هو أن المجتمع يستدعي من النصوص الشرعية ما يناسب قناعاته (الأميل للبداوة) بغرض توظيف النص الشرعي في خدمة الرؤية الثقافية للمجتمع، ليس إلا. ومن المهم التأكيد على أن البداوة ليست هي المشكلة. ذلك أن بداوة أهل الساحل في الخليج العربي والعراق ومنطقة الشام وحتى موريتانيا تعدِم في أصلِها ذلك التشدد المذموم في العلاقة بين الجنسين. إنما المشكلة تكمن في الفقه الشرعي القادم من مناطق معينة في أواسط شبه الجزيرة العربية منذ أواخر سبعينات القرن المنصرم، والذي ما فتئ ينتشر في مجتمعاتنا باعتباره الإسلام كما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. ولك أن تتأمل الحرص الشديد من المتزمتين في التشديد على أن تغطية الوجه والكفين واجبان شرعيان غير قابلين للنقاش (رغم وجوب كشفهما على المرأة في صَلاتِها وحَجِّها!). وكذلك التحريم القطعي للاختلاط بين الجنسين دون اعتبار للحاجة الممكنة له (باعتباره مدخلاً من مداخل الشيطان)، ناهيك عن تفسيرهم بعض آيات القرآن في غير موضعها، مثل تعميم قوله تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } على كافة نساء المسلمين، فيما النص القرآني كان موجهاً إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على التخصيص! هذه القطيعة التي أوجبها ذلك التيار الديني رغبة في الحفاظ على سلامة المجتمع من الخطيئة، وإن تمت بحسن نية، فإنها أدت إلى تكوّن ثقافة انكفاء على الذات لدى الجنسين منذ مراحل مبكرة من الطفولة. وتلك الثقافة بلغت بنا أن ننكر بعض بديهيات الدين والعقل لأجل تطبيق مقتضياتها. *** يحضرني في هذا المقام ما كانت عليه ثقافة مجتمعات آبائنا وأمهاتنا قبل أن تنشأ هذه الرؤية (غير الإسلامية) للعلاقة بين الجنسين. فقد كنت أشهد كبارَ السنّ من جيراننا يطلبون مني دعوة أمي (حفظها الله) للسلام عليها، عند زيارتنا. وكان الحوار الدائر بينهم ينمّ عن حميميةٍ ومحبةٍ إنسانية واقعة في دائرة الحياءِ والحشمةِ والذوق والالتزام الديني في أرقى درجاته. وكان كل ذلك يجري على مرأى ومسمع من أبي (رحِمَهُ الله)، الذي لم يكن ليخطر بباله أن الشيطان ستكون له كلمة في موقف كهذا. وفي المقابل، أجد زوجة أحد إخوتي في هذه السنين تجفل هاربة حال سماع صوتي، أو اسمي أحياناً، رغم كونها منتقبة! ولم يحصل يوماً أن ردّت عليّ سلامي رغم مجاهرتي به، ناهيك عن أن تبادرني إليه، رغم أن زوجَها وأمي وبعضَ شقيقاتي يكونون حاضرين المشهد من مبدئه إلى منتهاه. وهو الأمر الذي يعزوه شقيقي إلى الحياء (وكأنّ من لا تفعل مثل زوجته تعدم ذلك الخلق الإيماني الرفيع)! بل إن بعض أبناء إخوتي بات يخجلُ من وجودِه في مكان ٍ يجمعُه بزوجتي، فيما يعلمون أني ماثلٌ بينهم، وأنها ليست سوى زوجة خالِهم أو عمِّهم! نتيجة طبيعية إذن أن يتحول البعض في المجتمع إلى الشذوذ! ذلك أن أياً من الجنسين لم يتمكن من أن ينظر إلى الجنس الآخر باعتباره إنساناً، له روحٌ وعقلٌ وعاطفة، قبل أن يكون ذكراً أو أنثى. ومع مرور الوقت، وتعزيز ثقافة التحريم بين الجنسين، واستدعاء نصوص شرعية معينة لتأصيل تلك الرؤية القبلية المبالِغةِ في سد الذرائع، تحولت المرأة بالنسبة للرجل إلى مجرد فرج لقضاء الحاجة الجنسية، فيما بات الرجل بالنسبة للمرأة مجرد عضو تناسلي ذكوري. وعليه، فإن اللقاء (أيَّ لقاء) بينهما يستدعي أعلى درجات الاستنفار لأن الفاحشة ستقع لا محالة. ومع إعادة التأكيد على أن حالة الفصل الجنسي المطلق هذه إنما هي واحد من أسباب ذلك المرض، وليس السبب الوحيد، فإنها في تقديري سببٌ يمكننا البدء في معالجته الآن، دون أن نتوقع معجزة تحل علينا من السماء، أو – لا قدّر الله – غضباً ينزل على رؤوسنا بسببه! *** أقول: عندما نصحح نظرتنا للعلاقة بين الجنسين أولاً، سيمكن أن نعالج قضية الشذوذ. ذلك أنهم ليسوا وحدَهم المخطئين في معالجتهم لعلاقاتهم مع بعضهم البعض. والله أعلى وأعلم.