ثمة تشابه بين جبال تورا بورا في أفغانستان وجبال وصاب العالي في اليمن؛ غير أن الأخيرة مع تحصينها الشديد حصنها النظام السابق وحرمها من أبسط مكوِّنات الخدمات الأساسية، وكان ينعتها رأس النظام السابق ب«عدن الصغرى»؛ نظرا للتواجد الذي كانت تحققه الجبهة الوطنية أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات. في أواخر العام 2011، كانت بداية ظهور القيادي في القاعدة، حميد الردمي، حيث كان يتداول أهالي المنطقة أخباراً تفيد بدخول القاعدة إلى منطقتهم وينتابهم الريب والقلق، إذ ارتبط ظهوره في قرية «بيت اليهودي» «مذلب» مع اشتداد المعارك بين عناصر القاعدة والجيش في أبين، فأثار ذلك خوف الأهالي من أن تتحول منطقتهم إلى ساحة مواجهات مع الدولة.
حميد الردمي وضاعف من ذلك قيام الردمي بتحركات علنية وملفتة أمام مرأى ومسمع من الجهات الرسمية والأهالي، فقد كان يقوم باستقطاب الناس، وخاصة من هم في سن الشباب وطلاب مدارس المنطقة، وكان يقوم بتوزيع «ذواكر وفلاشات» عن العمليات التي تقوم بها «القاعدة» ومواجهتها مع الجيش في أبين.
وكان أبناء المنطقة يتحدثون عن حيازة الردمي وتكديسه لأسلحة وتوزيعها على بعض أنصاره وقيامه أيضا بتدريب العناصر الذين تم استقطابهم وإرسالهم إلى محافظة أبين للقتال في صف «القاعدة».
غير أنه، وفي حواره مع صحيفة «وصاب» المحلية، نفى ارتباطه بالقاعدة وتحدث عن التهميش والإقصاء الكبيرين الذي تُعاني منه مديرة وصاب العالي.
من بين من استقطبهم الردمي ل«القاعدة» شاب أرسله للقتال في صفوف «أنصار الشريعة» في أبين وتلقى والده نبأ مقتله بعد أيام وأكدت مصادر محلية خاصة «أنه استطاع استقطاب طالب في الصف الثاني الثانوي من مدرسة قريبة من منطقة «الردمي»، يُدعى صلاح قايد سنان حمود، وأرسله للقتال في صفوف تنظيم القاعدة في محافظة أبين، وبعد فترة تلقى الأب خبر مقتل ولده هناك ليسارع الردمي، ويأخذ رأسا من البقر ويقوم بالذهاب إلى منزل والد القتيل ليعزيه بمقتل نجله.
اللافت في الأمر أن الردمي كان يقوم بكل تلك التحركات والنشاطات وهو في قرية قريبة جداً من مركز المديرية.
وتحدث الأهالي أنهم شاهدوا عناصر من تنظيم القاعدة يأتون لزيارته والتنسيق معه من خارج المديرية، ومن محافظة أبين - على وجه الخصوص- كما أكد مصدر محلي في حديث خاص ل«المصدر أونلاين».
والغريب في الأمر أنه كان يمارس نشاطاته وتحركاته وهو في منطقة قريبة جداً من مركز المديرية، ولم تُحدث تحركاته تلك أي ردود أفعال من قبل الجهات الرسمية، بل كان ينسج تحالفاته مع الجميع وبدن استثناء.
وكان يتنقل بين قرى المديرية ليخطب الجمعة، ويحدث الناس عن «أسامة بن لادن»، وكان يتواصل شخصياً مع مدير الأمن.
مصلح اجتماعي كان الأهالي يزدادون توجساً ورعباً من تحركاته المثيرة والغريبة واستقطابه لمزيد من الشباب وتدريبهم.
لكن الرجل ينحو منحًى آخر، ويتحول بين عشية وضحاها إلى مصلح اجتماعي كبير، وتبدد في أذهان الناس صورة «الردمي» الجهادي، وتحول في نظر العديد منهم إلى مصلح اجتماعي كل من همه وشغله حل النزاعات وإصلاح ذات البين.
فقد كان يتنقل بين قرى المديرية للإصلاح بين الناس، ويأتي بنفسه إلى منازل المتخاصمين، ويُسهم بحل مختلف الإشكالات دون أن يرهق كاهلهم بأموال ومبالغ كالتي تتقضاها الجهات الرسمية، ودون أن تُسهم في حلها، بل كانت تعمل على مُماطلة بعض القضايا من أجل الحصول على مزيدٍ من الأموال.
ولما أن بدأ يسير في هذا الاتجاه، بدأت أنظار الناس تتجه إليه وتتحدث عن رجل يتفانى في خدمتهم دون جزاء أو شكور، وبدأت الناس تعرض عليه قضاياها، ويتحدث بعضهم عن قدراته في حل بعض القضايا العالقة.
وكان حريصاً في عدم تجاوز أو تهميش أعيان المناطق والقرى التي كان يذهب لحل إشكالات المواطنين فيها، بل كان يوليهم اهتماماً كبيراً.
بل، وكما أكد مسؤول محلي، أنه كان يشترك في حل القضايا الكبيرة مع مسؤولي السلطة المحلية في المديرية.
وعند سؤال أحد أعضاء المجلس المحلي في المديرية: هل ترى أن اشتراككم في حل القضايا مع شخص يشتبه بانتمائه ل«لقاعدة» أمر طبيعي؟
قال: بالطبع أمر طبيعي، ولا شيء في هذا.
«طائرات من دون سواق» أحد كهول القرية فسر ضجيج الطائرات المتواصل في أجواء المنطقة بأنها «طائرة من دون سواق تدوّر أنصار الشريعة» كان أهالي المنطقة يسمعون أصوات وضجيج طائرات بدون طيار بشكل مألوف ومعتاد، ولأشهر عدّة.
وقبل استهدافه بأيام معدودة، سألت شيخاً في قريتنا في الثمانينات من عمره بعد صلاة الظهر عن هذا الصوت المزعج الذي يُسمع بين الفينة والأخرى ليلاً ونهاراً، قال لي «إنها طائرة بدون سواق، تبحث عن أنصار الشريعة».
وفي اليومين الأخيرين على مقتل حميد الردمي، لاحظ السكان ازدياد تحليق الطيران وبكثافة غير معهودة لفتت انتباه أهالي المنطقة بشكل متزايد.
ويفيد الأهالي بأن الردمي قام بالتخفي في بداية تحليق الطيران منذ بضعة أشهر، لكن استمرار الطيران في التحليق وبشكل شبه مستمر ساعد في التمويه عليه حتى سهل من عمليه اغتياله.
كان الردمي عائداً من قرية «ذي عبيد» مع مرافقيه قبيل مغرب ذلك اليوم في سيارته، وكان أمين عام المجلس المحلي في المديرية مجاهد المصنف يستقل سيارة أخرى ويمشي بها غير بعيد من الردمي في الطريق ذاته.
وفي طريق الردمي إلى منزله عرج على صالح المنتصر، عضو مجلس محلي، وفي تلك الأثناء كان هناك أحد الأعيان في منزله ينتظر وصوله.
إذ كان من المقرر أن يجتمع الردمي مع تلك الشخصيات لحل واحدة من القضايا، كما أكد المنتصر ل«المصدر أونلاين».
«وحوالي الساعة السابعة والنصف مساءً، سمعنا دوي انفجار هائل، توزّع ذلك الصوت الذي لم يسمعه الناس من قبل على قرى ومناطق شتى، وتناقل الناس خبر الانفجار الذي يختلف كثيراً عن انفجار الديناميت المألوف لديهم، والذي تستعمله الشركة المعنية بشق الطريق».
ولحظة وقوع الانفجار أدار أمين عام المجلس المحلي سيارته وعاد إلى الخلف باتجاه قريته.
بعد حياة مليئة بالمتناقضات عاد الردمي إلى منطقته وجيهاً يسهم في حل مشاكل الناس ويعمل على استقطاب شباب لتنظيم القاعدة «ولحظتها، رأيت شباباً من أبناء قريتنا يركضون ويزعمون أنه تم ضرب الردمي، إذ كان دوي الانفجار يُوحي بذلك من ضخامته، وما هي إلا دقائق ونتأكد من نبأ ضرب الردمي من مصدر قريب من قريته.
وكانت الأنباء تتوالى، متضاربة، هل تم قصف منزله؟ وهل تم تصفيته أم ماذا؟ ليتضح الخبر في غضون ساعات أنه تم استهدافه على متن سيارته.
«وفي صباح اليوم الثاني على وقوع الحادثة، توجهت إلى المكان فرأيت سيارته قد تفحمت واحترقت، وحين سألت الناس المتواجدين في المكان عن جثته ومرافقيه، أكدوا لي «أن جثته وثلاثة من مرافقيه تفحمت وتطايرت أشلاءً، وتم تجميع تلك الأشلاء ودفنها».
وقبل أن أصل إلى مكان الاستهداف إذا بي أرى على مسافة قريبة أناساً قلّة يحملون جثة، تبيّن فيما بعد أنها جثة الشخص الرابع من مرافقي الردمي، الذي كان خلف سيارته، ولم يكن بداخلها، فقد بترت إحدى قدميه وأصيب بشظايا جراء الانفجار.
وأكد لي بعض الأهالي المتواجدين أن الشخص الرابع من مرافقي الردمي واسمه «غازي العماد» لم يُقتل في تلك اللحظات، بل ظل ينزف بغزارة شديدة (رأيت مكان دمه في مكان الحادثة) حتى تم إسعافه إلى أحد المستشفيات لكنه تُوفي، ودُفن في مسقط رأسه.
وهذه الضربة الجوية للطائرات الأمريكية بدون طيار هي الأولى في المديرية.
في القرية النائية كان الردمي يخطب في الناس ويحدثهم عن أسامة بن لادن وعن بطولات تنظيم القاعدة في أبين وعن طبيعة الاستهداف فقد كان دقيقاً للغاية، إذا تم ضرب مقدِّمة السيارة بصاروخ من نوعية خاصة، وعلى مسافة بعيدة جداً، كما قال لي أحد الشهود العيان في منطقة الحادثة.
ردود الأفعال أثار مقتله استياءً واسعاً في أوساط أهالي مديرة وصاب العالي، ليس حباً في فكره - كما سمعت بعضا منهم يتحدثون – لكن بسبب قصفه من قبل الطائرة الأمريكية بدون طيار، إذا يعدون ذلك الاستهداف انتهاكا صارخاً لسيادتهم.
وسادت حالة من الرعب بين الأطفال والكبار في تلك المناطق، أضف إلى ذلك كان الناس يعوّلون عليه أمالاً كبيرة في حل نزاعاتهم بدلاً عن الجهات المسؤولة التي ينخر فيها الفساد، إذ حل بديلاً عن الدولة والجهات الرسمية هناك.
ويذهب بعض الأهالي إلى أن مقتله ضمان لعدم حدوث مواجهات قادمة في منطقتهم، وقال بعضهم - كما سمعت - «شوكة تم إزالتها».
وفي اتصال هاتفي مع أحد أعضاء المجلس المحلي، صالح المنتصر، عن انطباعات الناس عن مقتل الردمي، قال: «الناس مستهجنون ومستاءون جداً، إذ كان بمقدور الجهات الأمنية أن تُلقي القبض عليه كمُتهم بدلاً من استهدافه بطائرة أمريكية بدون طيار». ويضيف «لا أحد فوق النظام والقانون».
وعن تحركات أنصاره بعد مقتله، أكد «أنه لا تحركات إلى الآن»، ويستبعد أن يكون هناك خلف للردمي في تلك المنطقة.
من هو الردمي؟ حميد الردمي أحد أبناء مديرة وصاب العالي - مخلاف بني الحداد «قرية مذلب» - بيت اليهودي.
انتمى للحزب الاشتراكي اليمني، وابتعثه الحزب للدراسة في كوبا.
قتل أحد أقربائه، وتم سجنه ست سنوات، وحفظ القرآن الكريم كاملاً في السجن، ليتمكن تنظيم «القاعدة» من استقطابه داخل السجن.
في أواخر العام 2011، يحط أقدامه في مديرية وصاب العالي مسقط رأسه، كان يقوم بتدريب الشباب الذين تم استقطابهم وتسليحهم، ومن ثم إرسالهم الى محافظة أبين للقتال في صف القاعدة.