الوحدة تعيش آخر لحظاتها وهناك تحت الرماد أكثر من وميض لنيران مشتعلة تطورات أوضاع الحراك السياسي والجماهيري في عموم اليمن يوحي بكل تأكيد بأن تلك البلاد التي عاشت في خضم أزمات متتالية منذ أربعينات القرن الماضي ستشهد أوضاعا حركية متغيرة قد تقلب الصورة السياسية العامة في جنوب الجزيرة العربية..
فإستمرار الأوضاع المضطربة بينما كان يعرف بجمهورية اليمن الشعبية الجنوبية سابقا , وإستمرار تدهور الأوضاع العامة في شمال اليمن بعد عودة النزاع بأقصى مدياته مع جماعة "الحوثيين" التي بدأت تحركا إعلاميا وسياسيا مكثفا يوحي للمراقب وبما لا يدع مجالا للشك بسيناريوهات حركية شديدة التحول قد تحدث في أي لحظة! وقد جاءت تصريحات رئيس الوزراء اليمني السابق السيد حيدر أبوبكر العطاس, وهو أحد قياديي جمهورية اليمن الجنوبية السابقة من الذين قدر لهم النجاة من مجزرة الرفاق الاشتراكيين في 13 يناير ,1986 وتأكيداته الجازمة على ضرورة الانفصال وإنهاء عقد الوحدة بين الشمال والجنوب اليمني والعودة بالأوضاع إلى ما قبل يوم 22 مايو1990 ( إعلان الوحدة اليمنية ) لتضيف إلى المشهد السياسي والاجتماعي والعسكري في اليمن رتوشا تجميلية هي أقرب للرعب منها إلى أي أشياء أخرى ..
فطريقة الانفصال الودي التي تحدث عنها العطاس لا يمكن أن تتم أبدا وفقا للصيغة التي أقترحها, أي عودة الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي سالم البيض إلى سدة الرئاسة في عدن وانكفاء الرئيس علي عبد الله صالح في قصره الرئاسي في صنعاء!
وكأن أحداث السنوات التسعة عشر الماضيات من عمر الوحدة اليمنية مجرد "حلم ليلة صيف"! أو مجرد مرحلة عابرة في تاريخ بلد وشعب مر بمختلف المحن والتحولات والمتغيرات والانقلابات بعد أن دخل التاريخ الحديث في مرحلة متأخرة نسبيا بعد إلغاء نظام الإمامة المنتمي للعصور الوسطى عام 1962!، والجميع يعلم أن التاريخ البشري المتطور لا يمكن إرجاع عقارب ساعته للخلف مهما بدت الظواهر عكس ذلك..
نعم لقد فشلت قيادة دولة الوحدة اليمنية التي دخلت في أبشع اختبار دموي عام 1994 في تلك الحرب المؤسفة أن تحقق آمال الشعب اليمني التي كان يعلقها على الوحدة، ولكن هذا الفشل لم يكن أبدا بسبب الوحدة ولم الشمل، بل كان بسبب التسرع في اتخاذ قرار الوحدة الاستراتيجي, وبسبب عدم وجود الضمانات الحقيقية لنقل التجربة الوحدوية إلى مستوى الشارع وليس على مستوى تحكم الكبير بالغير أو القوي بالضعيف أو انتهاج سياسات قبلية وعشائرية وعائلية ليست الوحدة سببا لها, بل أنها ضحية من ضحاياها..
فتدهور الأوضاع العامة في اليمن وتفاقم الأزمات الحياتية والفشل الذر يع في إدارة وتوزيع الثروة الوطنية , والتقصير الكبير في خطة التنمية الفاشلة أصلا , وغياب الدماء الشابة الجديدة التي بإمكانها دعم قضية وملف الوحدة بطاقات وأفكار وتصورات ودماء جديدة , إضافة إلى أزمة السلطة وسياسة التوريث الرئاسية التي أضحت سنة من سنن الأنظمة الجمهورية العربية العجيبة, وجميعها أسباب وظواهر ودلالات على تدهور كان لا بد أن يحدث, وأن يترك مؤثراته على الأوضاع العامة..
فالفشل الاجتماعي والاقتصادي , والفشل الذر يع في إدارة الصراع السياسي وانتهاج السياسات العدمية غير المسئولة قد حول اليمن وللأسف, إلى مرتع للجماعات الظلامية والأصولية والتكفيرية , وأفرز واقعا عدميا باتت تتحكم به الجماعات المتطرفة التي أضحى لها وجود فاعل في جنوب الجزيرة العربية مستغلة التداخلات القبلية وفساد السلطة وانعدام البرامج التحديثية الحقيقية والإهمال المتعمد لتوسيع المشاركة السياسية لتشمل الفئات البعيدة من قمة الهرم السلطوي التي بقيت ساخطة بين التحسر على الماضي ( الاشتراكي ) الذي ذهب مع الرياح الوحدوية وعلى تشتت الثروة الوطنية وعلى التخبط العام في إدارة السلطة في اليمن الموحد الذي ارتفعت فيه شكاوى الجنوبيين من هيمنة شمالية واضحة تعبر عن أزمة السلطة والنظام ولا تعبر أبدا عن بشاعة الوحدة.
لقد انتهت أول وآخر وحدة اندماجية في تاريخ العرب الحديث بين مصر وسورية في خريف 1961 ( 28 سبتمبر) بمأساة انقلاب عسكري في دمشق أطاح بقيادة المرحوم المشير عبد الحكيم عامر المترهلة وطبقة الضباط الفاسدة التي أحاطت به, وأرسلته مخفورا إلى القاهرة لتنتهي تلك الوحدة اليتيمة التي لم يحقق العرب بعدها أي وحدة اندماجية حقيقية باستثناء الوحدات التلفزيونية التي كان نظام معمر القذافي في ليبيا مولعا بها والتي ينفرط عقدها بعد خمس دقائق من التئامها! حتى تحول موضوع الوحدة العربية إلى تهريج حقيقي..
فقبل وبعد وحدة شطري اليمن لم تنجح أي تجربة وحدوية عربية بل أن موضوع الوحدة بحد ذاته قد تحول إلى حلم طوباوي في العصر الراهن بعد نمو التيارات الطائفية والدينية التي تتراوح بين إقامة الكيانات الطائفية الضيقة أو بين تحقيق الوحدة الإسلامية الشاملة! رغم البون الشاسع في مساحات التفكير والتصرف بين التيارين..
من الواضح اليوم أن الوحدة اليمنية تعيش في خطر حقيقي ربما سينتهي في النهاية بتكريس واقع انفصالي جديد تداخلت في خطوطه تيارات لم تكن موجودة أوائل تسعينيات القرن الماضي, وأعني بها التيارات الدينية الأصولية المتوحشة, التي باتت تستفيد من حزام الأزمات المستفحل في العالم العربي.
انفصال اليمن وإعلان الطلاق البائن هو اليوم أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى , فلن تكون هناك حربا بين الجيوش كما حصل عام 1994 , ولكن ستشتعل لا محالة, إن لم تكن قد اشتعلت فعلا, سلسلة من الحرائق الصغيرة التي ستوسع مساحات الثقوب في الثوب الوحدوي المهلهل.
سيناريو الانفصال لا يحتاج سوى إلى إعلان قيادة ميدانية, ربما هي اليوم في طور التكوين والبروز ولا تنتظر سوى أوامر التحرك...! , فالوحدة تعيش آخر لحظاتها , وهناك تحت رماد اليمن السعيد أكثر من وميض لنيران مشتعلة ستعيد رسم الخارطة السياسية في جنوب الجزيرة العربية... إنه سيناريو التغييرات غير المتوقعة وقد بدأ برسم خطوطه الأولى... فرحمة الله على الوحدة والوحدويين! تلك هي الحقيقة العارية لا محالة!
------------------------------- * كاتب كويتي [email protected] - المقال نشر في صحيفة السياسة الكويتية 16 مايو2009