أعتقد أن فكرة هذا المقال ستكون من قلائل الأشياء التي ستوحّد الكلمة المصرية في هذه اللحظة المفصلية من التاريخ، وتدفعهم إلى نقدي بجوارح الكلام، وهي فكرة أظنها تغتلي في صدور، وتختمر في عقول عدد من النُخب العربية، دون المجاهرة بها. طوال أكثر من نصف قرن مضى والشخصية المصرية لا يسعها التفكير والحديث إلا بصفتها قائدة ورائدة، ولا يستطيع المصريون رؤية بلدهم إلا في أعالي الهرم العربي، وبقدر ما حباهم الله من قدرة على الإبداع؛ منحهم طاقات في الجدل والسفسطة والإصرار على صوابية الرأي والوجهة والهدف، فضلاً عن أن تمركز الحضارة الفرعونية في ضفاف النيل، وحضور مصر الكثيف في التاريخ الإنساني، قد أعطى المصريين بُعداً ثقافياً وزخماً حضارياً، جعلهم يشعرون بشيء من الحضور المتعالي، حتى وإن كانواً عُباداً ونُساكاً، أو ودُعاةً وزُهاداً.
ولا تستطيع الذهنية المصرية الفكاك من فكرة «نحن أول من» لذا يثير غيظهم القول إن المسرح العربي بدأ سورياً، ويريدونه مصرياً، ولا يمكنهم الإقرار إن السوري أبوخليل قباني رائد المسرح العربي، والعراقي بدر شاكر السياب أو من كتب الشعر الحر، واليمني علي أحمد باكثير هو مفتتح الرواية العربية، وفي الفن مثل السياسة؛ إذ لابد أن تكون أم كلثوم كوكب الشرق، وسعاد حسني سندريلا الشاشة ومحمد عبدالوهاب ملك الغناء، وطه حسين عميد الأدب العربي، والأزهر مدرسة الوسطية، وشيخه الإمام الأكبر، وبلادهم أم الدنيا، ولا أدري ماذا سيكون نزار قباني إذا كان أحمد شوقي أمير الشعراء... وصولاً إلى ادعاء الصدارة في إشعال ثورة الربيع العربي التي قال عنها مفكر سياسي بحجم «هيكل»: «إن ثورة تونس لم تكن أكثر من قدح للزناد، أما ثورة مصر فهي من هيّجت وحركت طوفان المد الثوري في كل دول الربيع»، حديث أعاد إلى الذاكرة اعتراض مبارك على ملك الأردن الحسين بن طلال هرولته نحو التطبيع مع اسرائيل، وكل اعتراضه سببه عدم الدخول إلى التطبيع من البوابة المصرية..!!.
وظلّت مصر مسيطرة على الذهنية والقرار العربي من خلال سيطرتها على ثلاث وسائل مهمة: أولها: مساحة الإعلام والدراما المصرية التي استحوذت على دهنية المشاهد العربي وعزّزت حضور اللهجة المصرية طوال عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، قبل أن تنتشر القنوات المتعدّدة، وتضعف قدرة الدراما المصرية.
ثانياً: بقاء مقر الجامعة العربية في القاهرة وسيطرة مصر على أمانتها العامة منذ تأسيسها.
ثالثاً: احتكار مصر «الإخوانية» لمنصب المرشد العام لحركة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها إلى اليوم، وهي حركة لها تواجد وحضور في عشرات الدول الإسلامية، وينتمي إليها أكثر من 100 مليون عضو حسب تصريحاتها.
منذ تأسيس جامعة الدول العربية، والسيطرة المصرية لم تنفك عنها، بدءاً من أول أمين عام للجامعة عبدالرحمن عزام 1945 - 1952، ثم محمد عبدالخالق بن حسونة الذي تولّى الأمانة العامة 20 سنة 1952 – 1972، ثم محمود رياض 1972 – 1979، بعدها تم تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية، وسحب المقر منها بسبب التوقيع على اتفاقية «كامب ديفيد» مع الدولة الاسرائيلية، وتم نقل المقر إلى تونس وتعيين وزير الثقافة التونسي الشاذلي القليبي أميناً عاماً للجامعة، حتى قدّم استقالته قبيل جلسة الموافقة على دخول القوات الأمريكية إلى الخليج العربي لضرب العراق، وهنا حضرت الرغبة الأمريكية الكاملة، والضغط على بعض دول المنطقة بإلغاء قرار تجميد عضوية مصر، وتم عودة الجامعة إلى مقرها في القاهرة، وتعيين عصمت عبدالمجيد أميناً عاماً من 1991 – 2001، ثم عمرو موسى 2001 – 2011، ثم نبيل العربي من منتصف 2011 حتى الآن، وجميع أمناء عموم الجامعة العربية كانوا وزراء لخارجية مصر باستثناء التونسي القليبي، وهذا ما يفسّر رخاوة أداء الجامعة، لأنها تعبّر عن وجهة نظر دولة، وليس أمة، وأعتقد أن الوقت حان لرفع السيطرة المصرية، وكسر حالة الصنمية والصمدية التي يمارسها المصريون في الجامعة منذ 68 سنة، ويجب أن نشهد جدولاً لترتيب انتقال الأمانة العامة بين الدول العربية، مثل ذاك الذي تشهده الأممالمتحدة، والاتحاد الأفريقي، ويجب التعجيل برؤية أمين عام لجامعة العرب من لبنان والمغرب واليمن والجزائر والأردن والبحرين والسعودية، والسودان، فلا توجد دولة عقيمة لا تنجب ساسة ودبلوماسيين.
ويجب وضع آلية محددة لتوزيع الوظائف في مقر الجامعة، إذ يوجد في مقر الجامعة أكثر من أربعة آلاف موظف، 98% منهم مصريون، ومن يتقدّم لوظيفة هناك، يتعرّض لاختبار أعقد من اختبارات كلية الهندسة في جامعة هارفارد.
«شخصياً أتمنّى أن يكون أحد اثنين الأمين العام القادم للجامعة: وزير الثقافة اللبناني الأسبق البروفيسور غسان سلامة، الذي يعمل أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة السوربون، ويتحدث 5 لغات عالمية، وسبق له أن عمل أميناً عاماً مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، أو البروفيسور السوري برهان غليون، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة السوربون منذ قرابة 40 عاماً، وأمين عام المجلس الوطني السوري المعارض سابقاً».
في ذات السياق، منذ أسّس المصري حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في 1934 ومنصب المرشد ومقر الحركة لم يخرج من يد المصريين، وكأن غيرهم ليسوا دعاة ولا يفهمون في السياسة، وفي ظل هذا التعرّي لأطراف النزاع الدائر في مصر، وصلتُ إلى قناعة من نقطتين: الأولى أن إعلام مصر وساستها أدمنوا الفجور في الخصومة، ووصل بمعارضي مرسي إلى اتهامه بتبنّي المشروع الأمريكي الصهيوني، وممارسة القتل المباشر، بل ونفوا جنسيته، وقالوا إنه فلسطيني، وعميل لحماس، وكأن حماس التي تعيش على تبرعات المساجد دولة عظمى..!!.
والنقطة الأخرى: أقنعتني منصّة رابعة التي يتمركز حولها حواريو مرسي أن بقاء منصب المرشد ومكتب الإرشاد للحركة في يد المصريين هو من أعاقها عالمياً؛ إذ لايزال الجمود هو المسيطر، بدءاً من الشعار المرعب: سيفين وتحتهما «وأعدّوا» إلى الخطاب السلفي المنفّر.
«شخصياً أتمنّى أن يكون أحد اثنين المرشد العام القادم للحركة: رئيس حزب النهضة التونسي المفكّر راشد الغنوشي، وهو جدير بها، أو القيادي في حزب الإصلاح اليمني محمد قحطان، وهو صاحب خبرة تنظيمية وسياسية كبيرة».
منذ حوالي 80 سنة تأسست حركة الإخوان في ظرف استثنائي، ولايزال شعارها دون تغيير، الناس يأملون بشعار يحمل مدخنة مصنع، وسنبلة، وجهاز حاسوب، وكتاب يقود إلى الحياة والتنمية وليس سيفين يتعانق تحتهما الموت.
حركة إخوان مصر فيها دُهاة السياسة والاقتصاد والطب والهندسة والإدارة والإعلام والمحاماة وغاب جميعهم، وتقدّم الخطاب الديني الذي يتحدّث عن رائحة الجنة وحور العين «والدنيا جناح بعوضة».
إذا كانت الدنيا كذلك، فلماذا أنت معتصم في «رابعة»..؟!.