أقرّت صفحات التّاريخٍ إقدام ذلك الإنسان المغمور بهويّته.. الموقن أن هويّة شخصه جزءٌ –قطعاً- لا ينفك عن هويّة موطنه ذلك الذي شرى منه ولاءه وإخلاصه فتفانى في حمايته. ولا يعنيه – الإنسان- كينونة موطنه مسقطاً لرأسه أو ضيعة يزرعها أو أرض يعمُرها، لكنه وجد نفسه ذلك المُوله بتفاصيل وطنه ومعالمه وحدوده.. حتّى بلغ به الحد إلى خوض كفاحه مع كل فكرة تخلُص إلى تغيير صورةٌ ما تملكت وجدانه، بدافع حفاظه وإبقاءه على هويّة وطنٍ صاغ لذاته هويتها.
وبحرصٍ منهُ –الإنسانُ- أستبق الأيامَ مُحتاطاً عن مُحدِق الأخطار، ليحمل من الأحجار والأخشاب ما يقيم به لوطنه حدوداً تدفع عنه ما يداهم استقراره.. إذ بنى حول بيته سوراً فاصلاً، ورفع حول مدينته سوراً حامياً، ولما تعسر عليه تسوير دولته شيّد القلاع والحصون، ونصب الحواجز والسدود ما استطاع له قدرةً.. وخلف تلك الأسوار أستمالهُ اطمئنانه ليعيش هو وبني موطنهِ أفراحاً وأتراحاً في معزلٍ عن كل ما هو غريب عنهم.. وبين جَنَبات أسواره كم غدا وراح، وكم تفنن في تشكيل سمته وطبعه، إلى أن جعل من سلوكه وتصرفاته قوانيناً أطّرَها كما كان في خَلده، ومنها خَلقَ لشخصه ومجتمعه ثقافةً ضاربةً تتداولها من بعدهم الأجيال.
وقد اختلفت ثقافات الشّعوب باختلاف طبوغرافيّات مواطنهم، فكان ممن لم تُعنهُ طبواغرافية أرضه على أبتناء خصوصيةٍ لموطنه، أن تعثر في اختصاص نفسه بثقافةٍ تخصه دون غيره.. بيد أنّه لا غبار على حواضرٍ مفتوحة إذا صُيّرت ملتقىً لهجينٍ من الثّقافات، إنما تستبقي على نقاء ثقافتها حواضرٌ تحصّنت واستفردت بأرضها عن كل دخيلٍ قد يُضيف فيها أو يُنقِص.
وحين تناسلت الأجيال اتسعت رقعة احتياجاتهم وضاقت بهم سُبُل العيش، فواروا حمى الأسوار واجتازوها، ومازالوا في توسعٍ حتى بدا القديم من الجديد في ضؤُلٍ وانحسار.
وكان في تطابُق ثقافة من هم داخل السور وخارجه ما جعل منها –الأسوار- نكرةً مُستَغرَبة، فأذن لها أن تعيش صروف غربتها وعناءها.. حين لم تطلها يد الإهمال فتتهالك، نالت منها يد الاستغلال تُهلك ليُبنى من أنقاضها للكسالى منازلاً والمُعدمين، أولئك الذين وجدوا في القريب أيسر من البعيد، وألفوا الحيّ أبقى من الميت.
نعم.. تتلاشى الأسوارُ فالمعالم شيئاً فشيئا، وتتماهى الملامح مع بعضها البعض، القديم منها والمستحدث إلى أن تشرّخ صرح الهويّة التّاريخية.. ولما أوغل الأبناء مُجهزين على هويّة مواطنٍ عُني بها الأجداد، بذلك لم يشكروا لهم سعياً ولم يرعوا لهم حقّاً.
الأبناء بهويّةٍ –نعم- لكنها مُستَجدةٌ تُستحدَثُ ولا تستديم، بمسخها (لا أدرياً) تنتقم من ذاتها.. لأنها إن قُيضت لتُضعضع حال هويّةٍ تخلّدت في ذهن التّاريخ، فهو التّاريخ يجد نفسه (لا إرادياً) يُخلص للأطلال والمفاخر.. فكيف به –التّاريخ- لا يُهاود نفسه عن تسطير أسطورةٍ يمتدح فيها مآثر أجدادهم، ويصف في الأخيرين شنيع أجرامهم في حق وطنهم وهويّته !!.