باراك أوباما ليس أول رئيس أمريكي يعتبر اليمن تحدياً له . وحزمة المساعدات العسكرية والأمنية البالغة قيمتها 70 مليون دولار، ليست أول 70 مليون دولار مساعدات أمريكية لليمن . قبل عقدين من الآن، وبالتحديد في ،1990 كان الرئيس جورج دبليو بوش “الأب” يعد ويدبر لغزو العراق . وكما فعل ابنه في ،2002 كان بوش الأب متلهفاً وحريصاً على فرض تصويت جماعي في مجلس الأمن يوافق على غزو العراق . ولكنه لم يفعل كما فعل ابنه الذي تجاهل الأممالمتحدة عندما وقفت أمام حربه غير الشرعية .
فالرئيس بوش الأب كان لديه استعداد للدفع، وبذل الرشاوى الثمينة والامتيازات والتسهيلات السياسية اللازمة لنيل التأييد لغزواته .
وقدمت الولاياتالمتحدة مساعدات اقتصادية وعسكرية لحكومات دول فقيرة، كانت تحرمها من مثل هذه المساعدات بذريعة حروبها الأهلية أو فسادها أو القمع . وهكذا نالت حكومات كولومبيا واثيوبيا وزائير المساعدات أو الرشى في الحقيقة وصوتت لمصلحة أمريكا .
وبالنسبة للصين التي كانت قد هددت باستخدام الفيتو ضد مشروع قرار تأييد الحرب، عرضت ادارة بوش تقوية وإعمار العلاقات الدبلوماسية واستئناف المساعدات التنموية، وكانت الولاياتالمتحدة قد اوقفت برنامج المساعدات التنموية وحجمت علاقاتها الدبلوماسية مع الصين بعد أحداث ساحة تيان آن مين في بكين، ونتيجة لعروض الولاياتالمتحدة المغرية، امتنعت الصين عن التصويت .
وحينذاك تبقت دولتان كانتا في دورة مجلس الأمن . الأولى كوبا، التي رفضت الغزو الأمريكي وفقاً لمبادئها، على الرغم من أنها أيدت شجب مجلس الأمن الجماعي للغزو العراقي للكويت باعتباره غير شرعي . الدولة الثانية التي رفضت التصويت لمصلحة الولاياتالمتحدة كانت اليمن، التي كانت عضويتها في رئاسة دورة مجلس الأمن بمثابة تقدير لإعادة توحدها بعد عشرة أعوام من الحرب الأهلية الدموية .
وكانت الدول العربية منقسمة بشدة حول تهديد أمريكا بشن حرب على العراق، وكانت اليمن الدولة العربية الوحيدة التي تشغل مقعداً في رئاسة مجلس الأمن، ولم يكن باستطاعة اليمن تبني الغزو الأمريكي لمنطقتها . وفي النهاية صوتت اليمن ب “لا” ومباشرة بعد أن انزل السفير اليمني عبدالله الأشطل يده أسرع اليه دبلوماسي أمريكي وقال له: “هذه ستكون أغلى “لا” تقترع بها”، والتقط ميكروفون الأممالمتحدة الذي كان مفتوحاً، تعليق الدبلوماسي الأمريكي ونقله فوراً في كل ارجاء مبنى الأممالمتحدة، وبسرعة أذيع التعليق في العالم كله . وكال الصحافيون والمحللون انتقادات لاذعة للدبلوماسي الأمريكي لأنه لم يكن يعلم أن الميكروفون كان مفتوحاً ولأنه اوقع نفسه في موقف محرج . ولكنني اعتقد أن ذلك الدبلوماسي الأمريكي كان يدرك تماماً ما كان يفعله لأن الرسالة لم تكن موجهة بالأساس لليمن ولم يكن أي أحد في واشنطن يعلم أو يهتم بما يفعله أو يفكر فيه اليمن أو اليمنيون . الرسالة كان الغرض منها أكبر من ذلك، فقد كانت موجهة لأي دولة في الأممالمتحدة تفكر في تحدي هيمنة ونفوذ الولاياتالمتحدة . الرسالة كانت واضحة: “إذا تجاوزتمونا في أي قضية مهمة لنا، ستدفعون الثمن” .
وقد دفع الشعب اليمني ثمناً كبيراً . فبعد ثلاثة أيام من رفض اليمن التصويت لأمريكا، مضت واشنطن قدماً في تنفيذ تهديداتها وقطعت ميزانية مساعداتها لليمن بالكامل، وكان قيمة تلك المساعدات حوالي 70 مليون دولار . واليوم، وبعد مضي 20 سنة، لايزال الدبلوماسيون والعاملون في رئاسة الأممالمتحدة يشيرون بانزعاج الى ما يطلقون عليه: “السابقة اليمنية” .
في الأسبوع الفائت اعلنت إدارة أوباما عن خطط لارسال 70 مليون دولار مساعدات لليمن . بيد أن هذه المساعدات لن تكون من أجل بناء المساكن، أو الدواء، أو التدريب للعمل والوظائف . والخبراء الأمريكيون ضمن برنامج المساعدات، لن يكونوا خبراء في المياه والري أو أطباء أو حتى مدربين “أو مدربات” تمريض .
مبلغ ال 70 مليون دولار سيخصص ل “مكافحة الارهاب” ولأغراض “أمنية” والخبراء الأمريكيون سيكونون مدربين عسكريين مع عناصر متنوعة من القوات الخاصة .
بيد أن سعينا لتقوية الجيش اليمني لن يحدث أثراً في إرث مناهضة الأمركة اليمني، وتأييد بعض اليمنيين للعنف ضد الولاياتالمتحدة الذي يترافق في بعض الأحيان مع حالة العداء لأمريكا .
ماذا كان سيحدث لو لم تستغل الولاياتالمتحدة اليمن لكي تذيع عبرها ثمن تحديها للحكومات الأخرى المتذبذبة؟ وماذا كان سيحدث لو لم توبخ الولاياتالمتحدة الحكومة اليمنية وتعاقب الشعب اليمني وتتجاهل شعبه الفقير في معظم فترات العقدين السابقين؟ وماذا كان سيحدث لو أن الولاياتالمتحدة، وبدلاً من قطع برنامج مساعداتها بالكامل، عملت على إغراق اليمن وشعبه بالمساعدات الزراعية، وتدريب اطبائه وممرضيه، ووفرت لليمن واليمنيين أحدث تقنيات المياه لمعالجة مشكلة ندرة المياه، وماذا لو اغدقت أمريكا المال على اليمنيين أنفسهم لاستغلاله في تشييد البنيات الأساسية والاجتماعية التي يختارونها بأنفسهم، لا أن يختارها ويفرضها “الخبراء” الأمريكيون؟ اليوم، وبعد عشرين سنة، كانت الأمور ستكون مختلفة بالكامل .
* كاتبة وباحثة في الشؤون السياسية الدولية، وزميلة معهد الدراسات السياسية الأمريكي الخليج