* علاقات ما قبل الوحدة: بلغت العلاقات اليمنية – الأمريكية ذروة تطورها في الثمانينات بعد أن وجد الطرفان أن بينهما من القواسم والمصالح المشتركة ما يشجع على تنمية أوجه التعاون، فالولاياتالمتحدةالأمريكية لم تكن مطمئنة لمصالحها البترولية والاستثمارية في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية (أغنى بقاع العالم بمصادر الطاقة) في ظل استمرار المد الماركسي بالمنطقة؛ وتواصل الحرب بين شطري اليمن – خصوصاً مع رغبة نظام الشطر الجنوبي بإسقاط نظام الحكم في صنعاء وتصدير الماركسية إلى دول الجزيرة العربية ثم الخليج العربي – وهو ما يعني انتصار المعسكر الاشتراكي ( الاتحاد السوفيتي) في ضرب المصالح الأمريكية. وحرمان المعسكر الرأسمالي من مصادر الطاقة، باعتبار أن السوفيت كانوا مصدر التمويل والدعم الرئيسي لنظام الشرط الجنوبي آنذاك. وبدا واضحاً أن الولاياتالمتحدة كانت تدرك أهمية اليمن في المعادلات السياسية الدولية للمنطقة وهو ما دفع البيت الأبيض للموافقة على بيع سلاح بقيمة (400) مليون دولار – بتمويل سعودي – إلى حكومة صنعاء أبان حرب 1979م بين الشطرين، كما وقع الرئيس "جيمي كارتر" مذكرة الى وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" لإرسال صفقة سلاح متأخرة منذ أغسطس 1978م بقيمة (138) مليون دولار، تشمل على (13) طائرة ( إف/5)، (64) دبابة ( إم/60). ولكن التسويف في تسليم اليمن الأسلحة التي تم التعاقد عليها وتأخرها الى بعد إبرام "اتفاقية الكويت" بين الشطرين، دفع الرئيس علي عبد الله صالح إلى عقد صفقة مع روسيا بقيمة (600) مليون دولار، وهي أكبر صفقة في تاريخ اليمن، وقد مثلت خطوة ذكية وشجاعة من الرئيس سرق بها أضواء المجتمع الدولي، وحفز الولاياتالمتحدة على مزيد من الاهتمام والتركيز على اليمن، والتعامل مع قيادتها بمنطق سياسة الكبار. ومنذ عام 1982م تنامت علاقات البلدين سريعاً، وآخذت الإدارة الأمريكية تبادر إلى مساعدة اليمن عسكرياً سنوياً بتقديم دعم قيمته (11) مليون دولار لأغراض التدريب والصيانة، بجانب دعم النشاط الاقتصادي والتنموي اليمني بمساعدات بلغ متوسطها السنوي ما بين (25-30) مليون دولار، غير القروض الأخرى. وفي عام 1984م باشرت شركة "هنت أويل" الأمريكية أعمال التنقيب عن الثروات البترولية اليمنية، وحققت نجاحاً في ذلك. أما على المستوى الدبلوماسي، فقد قام نائب الرئيس آنذاك "جورج بوش" بزيارة إلى صنعاء عام 1986م – وهو أرفع مسئول أمريكي يزورها عبر التاريخ – وكان ذلك بمثابة اعتراف مبكر للدولة العظمى الوحيدة بالدور المستقبلي والمتنامي للدولة اليمنية... إلاّ أنه عندما تسلم "جورج بوش" الرئاسة عام 1989م أصر على دعوة الرئيس علي عبد الله صالح أولاً. فكانت مفاجأة أذهلت المسئولين في الخارجية الأمريكية.. فالرئيس صالح هو أول رئيس يمني يزور الولاياتالمتحدة، وقد حظي خلالها باستقبال متميز من كبار مسئولي البيت الأبيض ، و"الكونغرس"، و"البنتاغون"، وزار خلالها "نيويورك"، و"سان فرانسسكو"، و"دالاس". إن السياسة الانفتاحية على الولاياتالمتحدة، وما تمخض عنها من اتفاقيات وارتباطات ومصالح مشتركة لم تكن فقط عاملاً مساعداً في تفجير الطاقات التنموية اليمنية، بل كانت أيضاً رصيداً مهماً لليمن على طريق مشروعها الوحدوي، فمباركة الولاياتالمتحدة لجهود إعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين صنعاءوعدن – رغم أن نظام عن كان ضمن قائمة الأنظمة الإرهابية في الحسابات الأمريكية – أعطى الوحدة دعماً معنوياً أولاً، وهيأ لها غطاءً دولياً يثير حفيظة أعداء الوحدة، ويحول دون إقدامهم على أي نشاط قد يعرقلها أو يفشلها، ما دامت هذه الوحدة ستدخل ضمن استراتيجيات السلام الإقليمي والدولي الذي يرفع درجة اطمئنان الولاياتالمتحدةالأمريكية على مصالحها في المنطقة. * الوحدة وأزمة الموقف: بعد الاجتياح العراقي للكويت في الثاني من أغسطس 1990م، لم يكن ليخطر على بال أحد أن تجازف اليمن بكل مصالحها مع الولاياتالمتحدة، والدعومات الاقتصادية والسياسية المقدمة لها بتصويتها ضد قرار مجلس الأمن الدولي (661)، وأن تصر على مواقفها رغم الضغوط التي حملها "جيمس بيكر" وزير الخارجية الأمريكية خلال زيارته لصنعاء بقصد ثنيها عن موقفها القومي.. ورغم التهديد الذي تلقاه "عبدالله الأشطل" ممثل اليمن لدى الأممالمتحدة قبيل التصويت على القرار – بأن بلاده "ستدفع ثمناً غالياً إذا ما وقفت في طريق الإرادة الأمريكية". ويعد ذلك الموقف بمثابة التجربة العملية التي يمكن الرجوع إليه عند محاولة فهم طبيعة العلاقات الخارجية اليمنية، وأولوياتها في صنع القرار السياسي، وهي مسألة – وإن كانت تضع قيادة اليمن في زاوية حرجة وتكبدها هموم معالجة تبعات الموقف – أضفت على ساحة علاقاتها الخارجية حالة من الثقة والمصداقية بالمناهج المعلنة لثوابت السياسة الخارجية، ما لبثت أن عمقت الارتباط السياسي باليمن، ومدت المزيد من جسور التعاون، وتبادل المصالح معها، ليس فقط من قبل دول أوروبا وأفريقيا، وشرق آسيا، وروسيا، والصين، بل حتى من قبل الولاياتالمتحدة التي سرعان ما راجعت حساباتها بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، وعبرت عن امتنانها من (عدم تهور الحكومة اليمنية، ولرفضها استخدام أراضيها لصالح العراق أسوة بغيرها من قوى الصراع). فيما وصف الفرنسيون الموقف اليمني بأنه ( تعقل يمني). ومن هنا جاءت عودة اليمن ثانية إلى الساحة الدولية بزمن قياسي مذهل إلى الحد الذي تفاجأت به القيادات الانفصالية في عدن أبان حرب صيف 1994م، حيث وجدوا أن الولاياتالمتحدة كانت أكثر ثقة واطمئنان لوجهة نظر الرئيس علي عبدالله صالح، وإرادته السياسية من نائبه علي سالم البيض. وطبقاً لدراسة أعدها الباحث الأمريكي "مايكل هدسون"، فإن هناك أربع نقاط رئيسية يرتكز عليها الموقف الأمريكي الداعم والمساند لسياسة الرئيس علي عبد الله صالح، وهي: أولاً: قناعة واشنطن بأن الرئيس صالح قادراً فعلاً على تدعيم السلام في الشرق الأوسط. ثانياً: أنه أيضاً صادق في نواياه لحل الخلافات الحدودية مع جيرانه سلمياً – عبر بوابة الحوار الإيجابي. ثالثاً: أنه لا يسمح بتنامي الحركات الإرهابية أو المتطرفة على أرضه. رابعاً: أنه جاد في التزاماته لشعبه بالقيام بإصلاحات اقتصادية ليبرالية، وقطع أشواطاً عريضة على المسار الديمقراطي. وبذلك تنامت علاقات البلدين، وحرصت الجمهورية اليمنية – أسوة بغيرها من دول العالم بما فيها الأوروبية الصناعية – على الاستفادة من مخرجات شراكة واضحة مع الولاياتالمتحدة تعود بالنفع على البرامج التنموية الحيوية عبر مزيد من الاستثمارات الأمريكية، والقروض طويلة الأجل، والمساعدات التكنولوجية، والعلمية والخبرات والمنح المختلفة علاوة على الدعم السياسي الخارجي في المحافل الدولية. * وفاق المصالح وفصام المواقف: إن ذلك اللون من التعاون والشراكة كان سيصب في غير تأويلاته الحقيقية لو أنه أخل بمعادلات التوازن الخارجية للعلاقات اليمنية – الدولية مع بقية القوى السياسية والاقتصادية في العالم، أو لو أن تلك العلاقات نمت على حساب اعتبارات مبدئية، واستراتيجيات أمنية قومية.. لكن في ظل واقع اليمن اليوم تنتظم على الساحة سلسلة من المصالح والعلاقات المتينة مع مختلف بلدان العالم. كما أن القيادة السياسية لليمن دأبت على وضع أقدامها على أرضية صلبة من المواقف المشرفة، دونما تردد في رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني الدموي، ومعارضتها للسياسة الأمريكية الداعمة لوجوده، ورفض سياستها الجائرة على الشعب العراقي والسوداني والليبي وغيرها. وليس بالامكان الوقوف على مثل أفصح وأجرأ من وقفة الرئيس علي عبد الله صالح على منبر قمة الألفية الثالثة في نيويورك وتوجيه انتقادات لاذعة للسياسات الأمريكية الظالمة، التي تكيل فيها بمكيالين. لقد كان خطأ فادحاً أن يزج البعض الموقف اليمني الرسمي من الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب إلى أسواق المزايدات، والمكايدات السياسية الضحلة، كما لو أن الحالة برمتها مجرد وضع سياسي طارئ تطرق بمفرداته للأدبيات السياسية اليمنية للمرة الأولى؛ في حين تكشف الوثائق التاريخية أن مسألة الإرهاب احتلت موضعاً مؤلما على صفحات التاريخ السياسي اليمني، الذي أُريقت خلاله دماء المئات من اليمنيين الأبرياء على طرفي المناطق التشطيرية السابقة طمعاً في مكاسب سلطوية وفئوية ضيقة.. إذا كان لا بد من استقراء السلوك السياسي اليمني إزاء الإرهاب ضمن السياقات التاريخية للحالة نفسها، في أن واحد من استيعاب أنموذج العلاقات القائمة مع الولاياتالمتحدة ضمن خصوصياتها التي تمليها حالة الانتماء للمجتمع الدولي والاندماج لهرم الأولويات والمصالح، والثقل السياسي، والاستراتيجيات الوطنية للدولة. إن التعاون الأمني بين اليمنوالولاياتالمتحدة في تعقب الجيوب الإرهابية والذي وصفته بعض الأوساط – بسذاجة- على أنه خدمة مجانية تمس سيادة الوطن، لا تبدو لنا - كباحثين غير يمنيين- إلا خدمة تسديها الولاياتالمتحدة لليمن، بعد أن التقت مصالح الطرفين على التخلص من براثن هذا السرطان القاتل، الذي يفتك بالتجمعات البشرية الآمنة بلا رأفة، ويدمر الممتلكات، ويعطل النشاط التنموي، ويفسد بهجة الحياة. قد يرى البعض في العمل الإرهابي سبيلاً للانتقام من الولاياتالمتحدة من خلال الإضرار بمصالحها الاقتصادية، لكن الواقع أثبت العكس تماما.. فابتداءً بالهجوم على المدمرة الأمريكية "كول"، ثم الناقلة الفرنسية " ليمبرج"، واستهداف السفارات الأجنبية وتفجير أنبوب البترول، وصولاً إلى اختطاف السياح والعاملين الأجانب في اليمن، وغيرها من الجرائم الإرهابية، كلها لم تلحق ضرراً بمصالح الأمريكيين بأي قدر يمكن لنا مقارنته بالخسائر الفادحة التي تكبدها الاقتصاد اليمني جراء تراجع الاستثمارات الخارجية، وانحسار السياحة، وإلحاق الضرر بالثروة السمكية، وتحمل الدولة عبء دفع تعويضات عن الدمار الذي لحق بالناقلة "ليمبرج"؛ إضافة إلى تدني مردودات المغتربين، وتراجع فائض الميزانية العامة، ناهيكم عن الصيت السيئ الذي أحاق بالمجتمع اليمني ولوث سمعة إنسانه بممارسة وحشية للغاية. لقد تطورت العلاقات اليمنية – الأمريكية في الأعوام الأخيرة على نحو كبير جداً، وجنت اليمن مصالحاً عظيمة في هذا الإطار. إذ أن اليمن أصبحت النموذج الديمقراطي الذي استحق مبادرة احتضان "مؤتمر الديمقراطية وحقوق الإنسان والمحكمة الجنائية" مطلع العام 2004م الذي قصدته وفود مختلف دول العالم بما سهل على اليمن سرقة الأضواء السياسية للعالم. كما استحق من الولاياتالمتحدة استضافتها في قمة الدول الثمان الكبرى، ومن ثم ضمها إلى لجنة مساعدة الديمقراطية بجانب ايطاليا وتركيا.. وحضيت على مدى العامين الأعوام الثلاثة الماضية بترويج نوعي من قبل الولاياتالمتحدة لمسيرتها الديمقراطية، والذي توجته الإدارة الأمريكية ومعها الاتحاد الأوروبي ومنظمات دولية مختلفة بالإشادة الكبيرة بانتخاباتها الرئاسية في 20 سبتمبر 2006م. وإذا تجاوزنا الدعم المعنوي – السياسي- فإن الولاياتالمتحدة خدمت اليمن على نحو كبير في المجال التنموي بمساعدات ومعونات مختلفة- خاصة على الصعيد الأمني- الذي ساعدها على تثبيت الاستقرار والسلام الداخلي، وخلق بيئة جاذبة للاستثمارات والسياحة والحراك الاقتصادي بأنواعه. ولعل الخدمة الأكبر التي قدمتها الولاياتالمتحدة لليمن تكمن في الضغوط التي مارستها على دول الخليج العربي لضم اليمن إلى عضوية مجلس التعاون ، وتفعيل التعاون معها، ومن ثم تبني الدفع والحشد لمؤتمر المانحين الذي عقد في لندن أواخر سبتمبر الماضي.. والذي يمكن اعتبار مؤتمر استكشاف الفرص الاستثمارية الذي انتهى الأسبوع الماضي هو أحد مخرجات مؤتمر المانحين والدفع الأمريكي لمساعدة اليمن.. وقد امتد الأمر ليصل إلى اتخاذ الإدارة الأمريكية قرار إعادة إدراج اليمن ضمن قائمة الدول المستحقة لمساعدات صندوق الألفية. هذا التطور – الذي أوجزناه بشدة- هو مؤشر تنامي الثقة بين الطرفين، وتطور العلاقات إلى مستوى تقاسم مسئوليات الأمن الإقليمي تجاه المشكلة الصومالية أو غيرها التي تبنت اليمن فيها دور اللاعب الرئيسي في ميدان المصالحة بين الفرقاء. إن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن اليمن أصبحت أهم لاعب في إقليمها، وأهم رهان دولي على الصعيد المستقبلي؛ ولم يعد بوسع أحد القفز فوق حساباتها- وذلك هو المفهوم الذي ينطلق منه الرئيس علي عبد الله صالح اليوم في زيارته إلى الولاياتالمتحدة، حاملاً ملف المبادرة العربية للسلام، بالإضافة إلى ما يحمله من تطلعات للترويج الاستثماري في اليمن- وربما ملفات أمنية أخرى من شأن صنعاء فتحها مع واشنطن تحت مظلة واقع جديد يتصدره ذلك البلد الكائن في أقصى الجزيرة العربية والذي حتى قبل بضعة أعوام لم يكن هناك كثيرون يحفظون اسمه، أو يعرفون موقعه على خارطة العالم..! [email protected]