لو سُئل الحاج السبعيني محمد فاضل، الذي أحنى الزمن والقهر ظهره، عن الظلم؟ لأجاب غير متردد «هو أن يقتلوا ابنك ثم يسرحوك من العمل ويوقفوا معاشك؛ لأنك طالبت بدمه». فخلف تجاعيد وجهه المكسو بكثير من الوقار تختفي فصول من الألم والقهر، اضطرته مؤخراً أن يوسّع برنامجه الذي قضى منه 17 عاماً بين المنزل والمحكمة في مديرية النادرة بمحافظة إب للاتجاه إلى العاصمة صنعاء، حيث يطلق أنّته قريبة من مراكز القرار ووسائل النشر والإعلام. فقد الرجل الأمل في أن تنصفه مؤسسات القضاء أو تعطيه حقه مؤسسات الدولة، فلجأ إلى وسائل الإعلام طارقاً أبوابها علّه يجد فيها متنفساً لبعض همومه، فغالبية الصحف المحلية نشرت قصة فاضل المكلوم، إن لم تكن نشرتها أكثر من مرة، كما فعل «المصدر أونلاين». عاد فاضل من دول الخليج بعد أن كان مُدرساً هناك ليؤسس مدرسة «الإشراق» في مديرية النادرة بإب، وتخرج منها عدد من أبناء المنطقة، لكن من أسماهم ب«المتآمرين» قضوا على كل شيء (على مدرسته، وعلى وظيفته ومصدر رزقه)، وامتد أذاهم إلى التهديد بقتله وتصفيته هو وأسرته. في عام 1996، أطلق شخص يطمع في احتكار الميراث عدّة رصاصات على الشاب بدر نجل فاضل فأردته قتيلاً، لإسكاته عن المطالبة بإرث والدته، فأصر والده على الاقتصاص من قاتله، قاصداً باب القضاء الذي حكم على القاتل بالإعدام بعد أربع سنوات من الحادثة والتقاضي الذي أخذ من فاضل راحته وكثيراً من ماله. لكن إصرار الحاج فاضل على تنفيذ الحكم دفع ب «مراكز نفوذ» إلى الإطاحة به من إدارة المدرسة وإحالته للتقاعد، وإيقاف رواتبه منذ 2002، وعلاوة على ذلك، لم يتم تنفيذ حكم الإعدام - الذي مرّ على صدوره 13 عاماً- على القاتل، الأمر الذي يزيد من مخاوف فاضل من مؤامرة للإفراج عن قاتل ابنه دون إنصاف في القضية. ما يقارب العقدين، وفاضل يطرق مؤسسات القضاء والمحاكم لإنصافه، ويطرق المؤسسات الحكومية لاستعادة رواتبه وحقوقه المالية والوظيفية، أوصدت دونه كل تلك الأبواب، فاتجه إلى الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان. يَدفع إليك كومة من الوثائق والتوجيهات الممهورة بتوقيعات مسؤولي الدولة من أعلى هرم إلى أصغره، والتي تتضمن «النظر في موضوعه»، لكن على الرغم من كثرتها وأهمية الموقّعين عليها إلا أنها لا تعدو أن تكون حبراً على ورق، في الواقع وفي الاعتقاد الذي استقر في فاضل نفسه. الحيف الذي كتم أنفاس فاضل جعله يشعر أن كل من حوله متآمر على ظلمه وضيمه، وهو محقٌ في ذلك، فالساكتون عما تعرض له هم أقل قليلاً ممن يمعنون في إيذائه، حين سألته عن الشخص المحدد الذي يقف عائقاً أمام استرجاع وظيفته والاقتصاص من قاتل ابنه قال «كلهم متآمرون ويشكلون عصابات للنهب والرشوة». يقول الحاج فاضل إن قصته لا يمكن تلخيصها حتى في مجلدات، لكنه حرص على اختصارها في قائمة بخط يده، ألح علينا نشرها بالنص. كانت تلك القائمة عبارة عن رسالة موجّهة للرئيس عبد ربه منصور هادي والنائب العام ووزير العدل، وجل ما تتحدث عنه الرسالة قضية مقتل «بدر»، وكيف تم التلاعب بالحكم الذي صدر من محكمة النادرة في إب بإعدام القاتل بناءً على اعترافه وشهادة شاهدين. واختتمت بالقول «المتظلم أبو القتيل محمد فاضل..»! غياب فلذة كبده أفقده قليلاً من سمعه وقليلاً من بصره، كما فقدت «أم بدر» هي الأخرى كل سمعها وبصرها، وانتابتها أمراض مزمنة أجبرتها على استخدام أدوية يخرجها فاضل من الكيس الذي يحمله بينما هو يسرد مظالمه. أسئلة مثيرة للأشجان تخطر على البال، ماذا لو غادر الحاج محمد الحياة قبل أن يتم إنصافه؟ ما هو شعور من عرفه من صحفيين وحقوقيين ومسؤولين ورجال أمن وقضاة؟ أي ضمير تحتضنه صدور ظالمي شيخ عجوز لا يقوى على حمل نفسه ناهيك عن أن يحمل هموماً كهذه التي أصابته. والسؤال الأهم: لماذا لا يبادر ظلامه ومن يتهمهم بذلك بالرد على أقواله بعد أن نشر قضيته في وسائل إعلام مختلفة، أم أنهم يقومون بذلك وهم على علم وبصيرة بما يقترفون في حق الرجل؟ يقص الحاج فاضل مظلمته في مكاتب الصحف، وفي خاتمة حديثه يرتفع صوته بالشكوى «أنا مظلوم.. أنا مظلوم»، ثم يغادر، وقد انتقل بتفكيره إلى يوم جديد من متابعة قضيته.