عبد الوهاب قطران منذ أكثر من عقد، لا تهدأ السجالات السياسية والملاسنات الإعلامية بين مختلف أطراف الصراع في اليمن، تتجدد بين الحين والآخر على منصات التواصل الاجتماعي، في معركة لا تتعلق بالمستقبل، بل بما مضى؛ إذ يتمحور الجدل دومًا حول سؤال واحد: من المسؤول عن سقوط الجمهورية اليمنية، ووقوع العاصمة صنعاء بيد الخوثيين في 21 سبتمبر/أيلول 2014؟ يتبادل الفرقاء السياسيون الاتهامات، كلٌ منهم يتبرأ من المسؤولية ويُلقي باللائمة على خصمه. في حين أن الحقيقة، كما أراها، أعقد من تبادل بسيط للتهم. وأمام هذا الانسداد المزمن في فهم اللحظة المؤسسة لانهيار الدولة، وجدت نفسي أستحضر نظرية علاقة السببية كما درسناها في كليات القانون والمعهد العالي للقضاء، لا باعتبارها أداة قانونية فحسب، بل كإطار تفسيري لفهم المأساة اليمنية في بعدها البنيوي والتاريخي والسياسي. القانون كمرآة للانهيار في الفقه القانوني، سواء في القانون الجنائي أو المدني، تقوم المسؤولية على أركان محددة. ففي الجنايات، يشترط توافر الركن الشرعي، والمادي، والمعنوي. أما في المسؤولية المدنية، فهناك: الخطأ، والضرر، والعلاقة السببية بينهما. لكن ركن السببية تحديدًا ظل موضوعًا خلافيًا واسعًا بين فقهاء القانون: هل يتحمل الجاني الأول المسؤولية كاملة؟ أم من ارتكب الفعل الأخير؟ أم من تسبب بالسبب "الملائم" أو "الكافي" أو "المؤثر" في النتيجة؟ ضربوا مثلاً شهيرًا لذلك: رجل أُطلق عليه النار فأصيب، ثم أُسعف في سيارة تعرضت لحادث، ثم أُجري له تخدير طبي دون معرفة إصابته بمرض قلبي فمات تحت العملية. فمن القاتل؟ مطلق النار؟ سائق الإسعاف؟ أم الطبيب؟ القانونيون اختلفوا، والمشرع اليمني أخذ بمبدأ "السبب الكافي المؤثر في النتيجة". بهذا المنطق، فإن سقوط الدولة اليمنية والجمهورية لم يكن وليد لحظة واحدة، بل نتيجة تراكب وتعاقب وتظافر مجموعة من الأسباب المتداخلة التي أدت إلى النتيجة النهائية: سقوط الدولة وعودة الإمامة. كتاب "الجمهورية الفانية": تشريح موضوعي لانهيار الدولة أفضل ما كُتب في هذا السياق، في تقديري، هو كتاب "الجمهورية الفانية: مذكرة حول الانهيار والحرب في اليمن" للكاتب والباحث اليمني محمد العلائي جديد ، الصادر عن دار الفارابي عام 2021. العلائي، بأسلوب علمي رصين وتحليل تاريخي–سياسي، تناول أسباب السقوط لا من زاوية واحدة، بل بتعدد زوايا الرؤية، وباستخدام مقاربة منهجية تُعطي لكل فاعل سياسي دوره في المأساة. تفكيك الأسباب: من الفاعل الأول إلى القاتل الأخير إذا طبقنا هذا المنظور على الواقع اليمني، فإن مسلسل الانهيار الوطني يمكن تفصيله كما يلي: 1. السبب الأول: انفراط العصبية المؤسسة بدأ الانهيار بانشقاق نخبة الحكم نفسها. تمرد قبيلة حاشد بعد وفاة الاحمر الاب،تمرد على دولته وقبيلته الشيخ الطموح حميد الأحمر واللواء علي محسن الأحمر ،كليهما تمردا على الرئيس علي عبدالله صالح، اعتقادًا منهما بأنهما سينجحان في إزاحته والسيطرة على الحكم. كليهما ينتميان لتنظيم الاخوان المسلمين ،وتم استخدامهما من قبل التنظيم لفرط العقد الاجتماعي للدولة والقبيلة والجيش. وبهذا الانشقاق، تفككت عصبية الدولة اليمنية الثلاثية: الرئاسة–القبيلة–الجيش. ومن دون تلك العصبية، انكشفت الجمهورية أمام أول عاصفة. 2. السبب الملائم: احتجاجات فبراير والربيع العربي عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية عام 2011، ركب حزب الإصلاح وحلفاؤه في اللقاء المشترك موجة الاحتجاجات، دون رؤية واضحة لبناء دولة مدنية، بل بدوافع انتقامية ضد خصومهم التاريخيين. هذا الحراك غير المنضبط أضعف مؤسسات الدولة، وفتح الباب للميليشيات، وغذّى الشروخ المناطقية والمذهبية. 3. السبب الخارجي والمؤثر: الضوء الأخضر الإقليمي والدولي كان هناك دور إقليمي ودولي فاعل في انهيار الدولة. التحالف الخليجي، بدعم أمريكي–بريطاني، قدّم الضوء الأخضر للخوثيين للدخول إلى صنعاء، عبر تسويات خفية، هدفها تصفية حسابات مع جماعة الإخوان المسلمين.وتاديب ال الاحمر وعلي محسن. في هذا السياق، لعب الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي ووزير دفاعه دورًا بالغ الخطورة؛ إذ حيّد وحدات الجيش، وأعاد تسليم محافظة عمران للخوثيين، ومهّد الطريق لاجتياح صنعاء تحت ذريعة "إسقاط الجرعة"، بل ووجّه المعسكرات بعدم المقاومة! 4. السبب الأخير: التحالف القاتل بين صالح والخوثي وفي نهاية المطاف، كانت الطلقة الأخيرة من الرئيس السابق علي عبدالله صالح نفسه، الذي تحالف مع الخوثيين ضد خصومه القدامى من "اللقاء المشترك"، والاخوان المسلمين وال الاحمر وعلي محسن . وسهّل لهم السيطرة على مفاصل الدولة والجيش والأمن، معتقدًا أنه سيسيطر على المشهد من خلف الستار. لكن النهاية جاءت أسرع مما تصور: قتل الحوثيون صالح، بعد أن استنفدوا غرضهم منه. الجمهورية: جثة تنهشها السكاكين سقطت الجمهورية اليمنية لا برصاصة واحدة، بل بعدة رصاصات وسكاكين. وكل طرف من أطراف الصراع كان ممسكًا بمقبض السكين في لحظة ما. سقطت الجمهورية وسقط الجيش، وسُحقت القبيلة، وانشطرت اليمن إلى كيانات متصارعة طائفية وجهوية ومليشيوية، مرتهنة لمشاريع الخارج. وكلنا مجرمون وكلنا ضحايا من لم يفهم ذلك فلن يفهم شيئا على الاطلاق ! والأسوأ من ذلك أن النخب اليمنية، حتى اليوم، لا تزال غارقة في تبادل الاتهامات، غير قادرة على الاعتراف الجماعي بأنها جميعًا شريكة في الجريمة. عدو اليمن الحقيقي ليس الخوثي وحده هو العدو، ولا الإصلاح، ولا المؤتمر، ولا الجنوب، ولا الشمال. عدونا الحقيقي هو: الانقسام والتشظي، والطائفية، والمناطقية، والارتهان للخارج، وخطاب الكراهية، وتقديس العصبيات البديلة عن الدولة. ما لم نعترف بهذه الحقيقة، فستبقى الحرب مشتعلة، وسيبقى الوطن مفككًا، وسيموت مئات الآلاف دون أن يعرفوا حتى لماذا ماتوا، ولا من قتلهم. خاتمة: لن تعود الجمهورية اليمنية إلا بإعادة النظر إلى الأسباب العميقة لانهيارها، والاعتراف الجماعي بالذنب، والبحث عن مشروع وطني جامع لا يستثني أحدًا. أما أن يظل الجميع يتقاذفون المسؤولية كما يتقاذف الفاشلون كرة النار، فسنظل نغرق أكثر، ونموت أكثر، وتُدفن الجمهورية مرةً بعد مرة… في كل صباح جديد.