الحج هو رحلة العمر للمسلم.. وفي زمن السفر على الأقدام والدواب كانت - في أحيان غير قليلة - رحلة آخر العمر التي لا يعود منها المسافر إما لأنه مات في الطريق أو مات في المشاعر نفسها، وخاصة أولئك القادمون من أقاصي العالم الإسلامي الذين بلغوا من العمر عتيا وهم يجمعون ما يتزودون به في رحلتهم إلى الله والبيت الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وصحيح ان الحال تغير كثيرا هذه الأيام إلا أن صور كبار السن ما يزالون يمثلون نسبة كبيرة من المناطق الإسلامية البعيدة كشرق وسط آسيا وأفريقيا، وهؤلاء يعلم معظمهم أن رحلته هذه لن تتكرر أبدأ، ولذلك فهم الأكثر تعلقا بالمشاعر وحرصا على البقاء فيها إلى لحظة، وبعضهم إلى آخر.. نفس! ولأن الحج في الفترة الأولى من الحكم العلماني المتطرف في تركيا كان ممنوعا وعليه تضييقات شديدة؛ فقد حرمت أجيال كثيرة من المسلمين الأتراك من أداء الفريضة.. فهم يمثلون العدد الأكبر من الحجاج وإن كانوا يتميزون بالتنظيم الدقيق، وتراهم يتحركون هنا وهناك في مجموعات منظمة كالكتائب والسرايا التي تسير في العروض العسكرية، يتقدمهم حامل العلم التركي ذي الهلال رمز الشرق الإسلامي. ورغم هذه الصورة شبه العسكرية لتحركاتهم إلا أنها تبدو جميلة وعلامات البشر والسعادة تنطق من وجوه هؤلاء الطاعنين في السن�' الذين كادوا يُحرمون من رؤية الكعبة وزيارة مسجد نبيهم، والوقوف في عرفة.. هذه السعادة هي نفسها التي شعر بها الأتراك عندما أعاد رئيس وزرائهم السابق عدنان مندريس الأذان باللغة العربية - بعد أن فرض العلمانيون في عهد عصمت إينونو خليفة أتاتورك أن يكون باللغة التركية عام 1938 – حتى كانت بعض المساجد تكرر الأذان عدة مرات في الفريضة الواحدة، ويومها خرج الأتراك المسلمون إلى الشوارع يبكون وهم يستمعون إلى الكلمات العربية للأذان وليس تلك التركية التي أراد العلمانيون الأتراك بها تزييف هذه الشعيرة؛ ليس فقط كرها في اللغة العربية والإسلام، ولكن أيضا لأنهم يعلمون أن هذا الأذان الذي يدوي في السماء بلغة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوحد القلوب من مشرق الأرض إلى مغربها ومن شمالها إلى جنوبها، ويغسل النفوس حتى عند الذين لا يفهمون العربية!
الأذان ليس مجرد دعوة روتينية إلى عبادة ما.. والأثر الذي يحدثه في نفوس البشر غير عادي، ولو كانوا من غير المسلمين.. وهناك فرق شاسع بين أجراس الكنائس وأبواق معابد اليهود؛ فهذه مجرد أصوات آلات وإن كان لها معنى ديني، أما الأذان فهو منهج حياة للإنسان في دينه ودنياه.. ففي الدين هو دعوة له ليتحرر من طواغيت البشر وعبادتهم من دون الله، ومن عبادة الأحجار والأشجار وكل ما لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر بإفراد الله تعالى بالعبودية بمعناها الشامل وهذا معنى: أشهد ان لا إله إلا الله، ففيها وحدها تتحقق الحرية الحقيقية أو كما قال الشاعر الإسلامي محمد إقبال: يا إنسان؛ سجدة للإله تغنيك عن ألف سجدة لإنسان.
وفي الأذان دعوة لحياة مستقيمة في الدنيا بأتباع منهج محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الرسول الذي حمل الرسالة الخاتمة من الله الخالق والصانع للبشر العالم بما يصلحهم وينفعهم؛ ليحكموا حياتهم كلها على أسسها وأصولها حماية لهم من الانحراف، والضلال، والبؤس والشقاء وهم يحيون حياتهم الدنيا التي هي دار ابتلاء واختبار لقوله تعالى: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» والعبادة المقصودة هي العبادة الشاملة التي تعب�'د كل شيء لله فلا تتمرد على تعاليمه ولا تخالفها إلى ما يبتدعه البشر مما يخالفها ويتناقض معها.. وهذا هو معنى: أشهد أن محمداً رسول الله.
ونحن نلاحظ الفرق الشاسع عندما يرفع الأذان من مساجدنا بصوت عذب رائق يكاد يخلع النفوس من بين الضلوع، وبين آخر يرفعه بصوت واهن متحشرج! وكما سلف فحتى غير المسلمين عندما يسمعون الأذان ترتج أفئدتهم، وهذه الكاتبة لورانس ديونا تتحدث في كتابها «اليمن التي شاهدت» عن الأثر الذي وجدته في نفسها وهي تستمع للأذان في صنعاء: «نحن في تشرين الثاني، الفجر ينبلج ويتلون الضوء بلون بنفسجي غير محسوس.. وتصل أناشيد المؤذنين هبات متتالية من الجوامع البعيدة.. إنني أرتعش.. إن تنغيم الصوت البشري في الإسلام يهزني أكثر من رنة البرونز في المسيحية..».
شهادات أخرى.. وفي مايو الماضي وقعت حادثة مماثلة في تركيا.. والأكثر دلالة أنها وقعت في حفل فني صاخب بمدينة إسطنبول كان يقيمه مطرب كندي شاب (19 سنة) يدعى جاستن بيبر.. ففي أثناء الحفل أوقف المطرب الشهير؛ الذي تجمع 300 ألف معجب ليسمعوه؛ الغناء مرتين عندما سمع الأذان يصل من مكان ما.. وبرر بعد ذلك فعله قائلاً: «لقد تأثرت بشدة لصوت المؤذن وبالأذان، وأوقفت الحفل احتراما للجمهور!».
ليتني مسلماً! «ما دخلت مسجدا قط دون أن تهزني عاطفة حادة، وبعبارة أخرى دون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلما!» الباحث والفيلسوف الفرنسي الشهير إرنست رينان.
للتنبيه: هذه العبارة أوردها المستشرق البريطاني السير توماس أرنولد في كتابه الشهير: الدعوة إلى الإسلام، وسبب التنبيه أن رينان كان له رأي سلبي في الإسلام وموقفه من العلم والفلسفة، وقد دخل المصلح الإسلامي جمال الدين الأفغاني معه في نقاش معروف حول آرائه تلك انتهت بإقرار رينان أنه اعتمد على مصادر ضعيفة.
وفي الكتاب نفسه يورد أرنولد كلمات لأسقف مسيحي قال فيها: «ما من فرد يتصل بالمسلمين لأول مرة إلا أخذ بمظهر دينهم هذا.. وحيثما يمكن ان توجد في الطريق العامة او في محطة السكك الحديدية او في الحقل، فإن من أكثر الأشياء شيوعاً أن ترى الرجل منهم يترك في اللحظة التي يقوم فيها بأداء أعماله أياً كانت، وبدون أي تأثر بالرياء أو الظهور، وفي سكينة وتواضع لكي يؤدي صلواته في أوقاتها المحددة، واكثر من ذلك أنه ما من فرد رأى يوما ساحة الجامع الكبير يوم الجمعة الأخيرة في رمضان، وهي غاصة بما قد يربو على 15000 مصلٍ وكلهم جميعاً منهمكون في صلاتهم، مظهرون أعمق آيات الإجلال والخشوع في كل إشارة يبدونها.. إلا تأثر تأثرا عميقا بهذا المشهد، أو أخذ فكرة عابرة على تلك القوة التي ينضوي مثل هذا النظام تحت لوائها، على حين نجد النظام الدقيق الذي يتجلى في دعوة الناس اليومية إلى الصلاة عندما يؤذن الداعي في وقت السحر، قبل أن يتنفس الصبح، أو بين ضوضاء ساعات العمل وضجيجها، أو عندما يرخي الليل سدوله كذلك، مفعما بتلك الرسالة ذاتها». (نقلا عن كتاب: الإسلام في عيون غربية للدكتور محمد عمارة).
وهذا المعنى نجده أيضاً فيما رواه أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» عندما كان في ضيافة سلطان لحج أحمد بن فضل أثناء سفره من عدن إلى صنعاء عن اهتمام بسطاء المسلمين بالصلاة، وتوقفهم عن العمل لأدائها أو كما قال: «كنت وسمو السلطان في أحد بساتينه خارج المدينة، فرأيت الحجري يحرث الأرض، ورأيته يصلي وهو واقف على صندوق كبير في الجو فيه ماء للقاطرة حيث تنتهي سكة الحديد. عامل من عمال الشركة يشتغل في تصليح مستودع الماء، فآذنت الشمس بالغروب.. ترك عمله، ووقف مكانه يصلي صلاة المغرب.. إن ذلك لجميل! وإن دينا يستوقف العامل في عمله ليذكر الله.. لأجمل!».
مسيحي يدعو إخوانه إلى المسجد! وتحت عنوان: يا أخي المسيحي تعال إلى المسجد.. كتب الأديب والفيلسوف اللبناني الأمريكي الشهير أمين الريحاني هذه المعاني الجميلة في كتابه «جادة الرؤيا» في فصل: في الكنيسة والجامع: «في كل أماكن العبادة التي أعرفها – وقد جررت نفسي غير المحلولة من خطاياها كما أوصالي المرهقة إلى أكثر من هيكل غريب- أثر في�' الجامع دائما لكونه إلى حد بعيد الأكثر ديمقراطية (أي مساواة)، وبعدا عن التقيد في ضيافاته المتنوعة؛ فلا شيء فيه أو في تدبيره يشبع غرور الغني أو يهين الفقير، ينفر الضعيف أو يلهي المتعبد.. الجامع هو ملاذ راحة للشحاذ والأمير، وهيكل ديمقراطي للمؤمن!» نق عن صحيفة الشرق الأوسط- 8/11/2000- العدد: 8016.
وفي كتابه الشهير «ملوك العرب» الذي سجل فيه وقائع زياراته لدول الجزيرة العربية والعراق مطلع العشرينيات، وفي أثناء سفره من البحرين إلى شاطىء الإحساء شرق السعودية في سفينة صغيرة سجل الريحاني المسيحي هذه الانطباعات: «ثم أيقظني صوت الملاحين يشتغلون في قلب الشراع طوعا للريح ويرددون: صل على النبي.. ما سمعت في أنغام اليل على المياه أطرب منها إلا أن يكون صوت المؤذن في الخليج وهو يؤذن الفجر.. ليس في صلوات الأمم كلها أدعى منه إلى الورع والخشوع، وقل�' فيها ما هو أجمل وقعا في النفس من صلاة الملاح في الشراع!».
أحب الأذان! وهذه شهادة أخرى من قائد عسكري أمريكي هو نورمان شوارزكوف القائد الميداني لحملة عاصفة الصحراء لتحرير الكويت من احتلال الجيش العراقي؛ ففي كتابه (الأمر لا يحتاج إلى بطل) سجل بعض الانطباعات والمشاهدات التي رآها أثناء وجوده في البلاد العربية.. فعن الأذان قال في ص 113: «في الفجر استيقظت على صوت أذان الفجر الذي يدعو المسلمين إلى الصلاة من المآذن.. كنت أحب هذا الصوت!».. وعن مشهد الصلاة كتب يقول في ص 394: «ولما وصلنا حان وقت الصلاة، وطلب إلى الغربيين أن ينتظروا في خيمة التجمع الكبيرة؛ حيث صفت عشرات الكراسي على شكل حرف سي، ودلف الملك إلى خيمة خاصة ليؤدي الصلاة، أما بقية العرب فقد تفرقوا إلى زمر صغيرة ابتعدت قليلا في الصحراء، وراحت تسجد في الرمال.. راقبت هذا المشهد الورع وقد تملكتني مشاعر الخشوع؛ فقبل أقل من نصف ساعة كان العرب جزءا من اندفاع مهتاج بالسيارات الفارهة عبر الصحراء أما الآن فثمة سكينة كاملة، لقد مشوا ببساطة في الصحراء ووجوههم إلى قبلة مكة ليتلوا صلاتهم إلى الله..».