اتجهت مآلات الربيع العربي في نسخه المتعددة لأكثر من منحى في البلدان التي شهدت تحولات بعد عقود من التسلط المطلق، وباستثناء الأزمة السورية وأحداث مصر قبل بضعة أشهر فإن بقية البلدان ارتأت وسيلة الحوار مخرجاً من أزماتها ومدخلاً لعهد جديد، وهو سلوك لا شك راقٍ وحضاري يزين الربيع العربي ويعكس حالة من النضج بتحكيم العقل ونبذ العنف، ولكن ذلك يبدو فقط في حال الرؤية البانورامية السطحية بينما وعند تناول التفاصيل لازالت تلك البلدان تراوح في وهم الحوار والجدل العقيم في أجواء متوترة للظفر بالسلطة وبروح إقصائية، وكأنهم يعيدون استنساخ الأنظمة التي أطاحوا بها ابتداء من الحوار الوطني في اليمن والحوار الذي لم يتم بين أطراف العملية السياسية في العراق مروراً بليبيا التي تتجاذبها الرغبات الانفصالية في بنغازي وشرق ليبيا، ناهيك عن النزعات الإثنية عموماً وانتهاء بتونس التي تنوي النخب السياسية فيه الحوار لبضعة أسابيع في الوقت الذي فشل فيه اليمن لأكثر من نصف عام من الحوار المتواصل والذي ما إن اشرف على نهايته حتى اكتشف المتحاورون بأنهم عادوا للمربع الذي بُدئ منه، وقد يفرز الحوار صيغاً فيدرالية تكون بمثابة بذور لانفصال ناعم في سنوات لاحقة أسوة بتجربة جنوب السودان، مع أن الفارق الاجتماعي في الحالة اليمنية أنهم يمنيون وعرب ومسلمون. والغريب في هذا الحوار أن المتحاورين يتهافتون لما بعد الحوار ويتسابقون لاقتسام كعكة السلطة، ولا ضير في ذلك إذا كان في إطار يمن قوي واحد ديمقراطي ودولة مدنية يتساوي فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، وماعدا ذلك فهو تقاسم للمغانم تحت مسميات أخرى. معلوم بأن أطراف السلطة في يمن اليوم غير الأمس وبداهة فإن غداً سيكون مختلفاً تماماً شكلاً ومضموناً، فالمرحلة أفرزت قوى قد تساهم في التغيير والتحولات المفترضة التي هي استحقاقات المرحلة، والعبرة بالنتيجة فلو أفضى الحوار لاستيعاب كل إشكالات اليمن أو على الأقل الخروج بتوافق وتناغم ففي هذه الحالة برأي المواطن البسيط لا يهمه تفاصيل من يحكم وكيف، فغاية السلطة في أي مجتمع هى تحقيق أبسط مقومات حياة شعبهم في المواطنة المتساوية والحرية والعدالة وتوفير أبسط مقومات العيش الكريم.
وفي مقارنة عن أجواء الحوار الوطني في اليمن وبلدان أخرى اهتمت بتجربة كهذه فالعراق أخفق حتى في مجرد عقد مثل تلك الحوارات بين الأطياف السياسية المتباينة وظلوا يتغنون بالحوار والمصالحة والديمقراطية لدرجة تعيين وزيراً لشئون الحوار الذي لم ينعقد أصلاً منذ نحو عقد من الزمن ولم يفلحوا في ذلك سبيلا وأستمر نزيف الدماء في عاصمة الرشيد إلى يومنا هذا، ولم تتم مصالحة حقيقة بل قوانين اجتثاث وروح انتقامية لأنها ببساطة لم تتم بين المختلفين الحقيقيين إنما كان المراد الحوار بين أطراف السلطة فحسب! فالتحولات التي فرضت المشهد العراقي الحالي ليست فقط بإيعاز ودعم خارجي بل بأدوات العامل الخارجي عندما أتى المتنفذون في العراق على ظهر دبابة المحتل الذي جثم ثماني سنوات، بينما يتباين اليمن في ظروفه الذاتية والموضوعية تماماً، وانعكس في الحالة العراقية على تفاصيل متلاحقة كالدستور والفيدرالية التي زادت الأوضاع تعقيداً يوما بعد يوم.
وفي اليمن المشهد يكاد يختلف تماماً بالنظر لارتباك المرحلة القصيرة التي تلت رحيل رأس النظام السابق، فقد كان البناء الديمقراطي خلال الفترة القصيرة ومحاولة إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية قد استغرقت وقتاً أكثر من المتوقع بالنظر لمماطلة الحرس القديم، وهو الأمر الذي أخّر بدء الحوار الوطني الشامل وجعل المتحاورين في عجلة من أمرهم في محاولة لاستباق الزمن فكادت كل هموم اليمن تنحشر في بضعة أشهر، وهى مابين تسليم السلطة السابقة وبداية استحقاق الفترة ما بعد الانتقالية وما يتبعها، ولم يتفق حول ترتيب الأولويات وكانت خطوات "النظام الجديد" غير المدروسة كمن يضع العربة أمام الحصان ويطالبه بالركض، فربما ركض الحصان واصطدم مع أول حركة مع العربة الثقيلة التي تنوء بحملها تركة ثلث قرن من الفساد المطلق لنظام الرئيس اليمني السابق، حيث تزامنت المطالب والاستحقاقات المفترضة من انتخاب رئيس انتقالي وتشكيل حكومة مسخ نصفها يحكم والنصف الآخر يعارض نصفه وشريكه المفترض ويرمى كل الأخطاء عليه، فضلاً عن تعثر مراحل الحوار التي رافقها جملة تعثرات وإحباطات أغلبها مفتعلة للأسف ويراد للتجربة أن تنجح، في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الحركة الوطنية اليمنية التي يمكن أن نسميها مجازا حياة البرزخ وهى الفترة الفاصلة مابين خروج رأس النظام واستمرار الجسد ومابين الفترة المنشودة لعلها أدق وأخطر مراحل اليمنيين في تاريخهم السياسي الحديث.
الإشكال الجوهري في مآلات الحوار الوطني الشامل في اليمن الذي انطلق منذ مارس الماضي وما يزال يراوح بين اليأس والرجاء أن المتحاورين وصلوا إلى طريق مسدود في أهم مفاصل الحوار وهو القضية الجنوبية، والى حد ما قضية شمال الشمال فيما يعرف بالحوثيين، ويتركز الجدل تحديدا في الشكل المستقبلي للدولة القادمة والذي يسير في التوجه نحو الفيدرالية ولكن هل من إقليمين أو متعددة الأقاليم، ويجزم البعض بأن النوايا هنا تخفي الأهداف فكل له أجندته فكما دخل أطراف الوحدة برؤية إقصائية، وهاهم ينهون حوارهم بأحاسيس متوترة وحسابات خاطئة، غير مدركين أن إشكال تعثر اليمن هو غياب الدولة المدنية بغض النظر عن شكل النظام والدولة فالعبرة بالنتيجة وحسن النوايا والتحاور بروح وطنية خالصة.
ولعل من مفارقات الربيع العربي في أكثر من مشهد هو ذلك الإصرار من قبل القوى الإسلامية على القبول بالصناديق كحكم في العملية السياسية، وهذا بحد ذاته مؤشر حضاري إذا ارتضينا باللعبة الديمقراطية ولا جدال فيه طالما قبل الجميع بهذه القيم، مقابل رفضها من قبل قوىً أخرى، بعضها يدعي العلمانية والليبرالية، وبعضها الآخر يتبنى نهجاً قومياً او يسارياً، وآخرين من بقايا الحرس القديم الحالمين بالعودة ولو بصيغ أخرى، ويجمعهم التطلع للسلطة بعقلية الإقصاء، وهاهي قد تتكرر أحداث مصر في تونس ولكن بصيغة ناعمة ديمقراطية!
ومن هنا لا يعول البعض من مخرجات الحوار اليمني التي هى قاب قوسين أو أدنى من أن تفرز نتائج ذات أهداف مرحلية وليس لها بعد استراتيجي وبمولود مسخ فقد يتمخض الحوار فيلد انفصالا ناعما.
ويمكن إسقاط الحالة في اليمن فأكثر من نصف السلطة لازالت بيد حزب المؤتمر الذي يرأسه الرئيس السابق بينما نصف السلطة المحاربة بالإقصاء وتصيد أخطائها يتنازعها نسيج غير متجانس بالمطلق من عدة أحزاب وقوى، ومع ذلك لم تسلم من كيل التهم لهذه الحكومة المؤقتة الضعيفة الموكل إليها حل معضلات متراكمة لأكثر من ثلث قرن من الفساد المطلق، وأن تأتي بالتحولات المطلوبة بعصا سحرية لحل كل مشاكل اليمن المتراكمة منذ عقود فكما قال السياسي اليمني البارز الأستاذ ياسين سعيد نعمان "عجبي لحصانة تمنح مقابل نقل السلطة التي لم تنتقل بعد، حقا إنها أكذوبة كبيرة"!