شتان بين صورتين متناقضتين في المشهد العربي؛ أولاهما تبعث على الفخر والاعتزاز، والأخرى تبعث على الأسى والخجل.. وفي كليهما دروس وعبر لمن أراد! الصورة الأولى: نجدها في ما تسمح بنشره الظروف الأمنية عن القدرات العسكرية لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس في قطاع غزة؛ المحاصر صهيونيا ومصريا من جميع الجهات الجغرافية؛ وفيها يتأكد للعالم أن امتلاك السلاح وصناعته ليس أمرا مرتبطا بالضرورة بالمال الوفير، وتوافر الظروف التقنية والعلمية والسياسية والأمنية المثالية المريحة؛ بقدر ما هو قرار من يمتلك قراره، ويصر على ان يكون له – وليس لغيره - الكلمة الأخيرة في مصيره، ولا يرضى أن يجعل من ظروف معيقة سببا في النكوص عن المقاومة، والدفاع عن النفس والعرض والوطن!
في الظروف التي نعلمها جميعا التي يعيش فيها أهل غزة، وتعيش فيها المقاومة، أمكن للمقاومة كسر الحصار المفروض على غزة، وتهريب أصناف وكميات نوعية غير عادية من السلاح الذي كان من أسباب الصمود الكبير أمام عنجهية الصهاينة؛ بل وكسر أنوفهم وتمريغها في الهوان، ووضع حد لغطرسة القوة المجنونة التي ظنت أنها ستتعامل مع المقاومة كما تعاملت قديما وتتعامل الآن مع الجيوش العربية.. وأكثر من ذلك نجاح حماس في الظروف المعروفة في إنشاء قاعدة صناعية غير عادية لصناعة سلاح المقاومة.. وليس أي سلاح: مسدس أو بندقية آلية وذخيرتها.. أو ألغام ومتفجرات.. ما نجحت المقاومة في تصنيعه في ظل ظروفها المأساوية أقرب لمعجزة عجزت عنها بلدان عربية بأموالها وجيوشها وميزانياتها الخرافية، وهي لا تعاني حصارا ولا شحة في المواد الترفيهية ضلا عن المواد الضرورية لحياة الإنسان!
كيف نجحت المقاومة في تهريب صواريخ غراد إلى داخل القطاع المحاصر أمر يدخل في إطار المعجزات.. لكن صناعة صواريخها من كل نوع (مضادات للدبابات، وللطائرات، وقصف المواقع العسكرية) وأصناف أخرى من الأسلحة هو أكثر من قهر للمستحيل، وتأكيدا على أن الإنسان صاحب القضية قادر على تجاوز كل صعب وعائق.. إن توفرت له الإرادة والعزيمة!
قارنوا هذه الصورة بالصورة الأخرى المخزية لأنظمة عربية لا تعرف إلا عقد صفقات الأسلحة المتطورة جدا، وبمليارات الدولارات.. ثم لا يعرف عنها شيئا إلا أنها لم تعد صالحة أو كافية عند الحديث عن صفقات أسلحة جديدة!
كم من أسراب طائرات متطورة بمليارات من أقوات الشعوب لم يسمع لها صوت ولا شوهدت إلا في العروض العسكرية!
وكم من صواريخ من كل نوع وشكل تبخترت في ساحات العروض .. وكم من دبابات حفرت الطرقات المسفلتة بجنازيرها.. كلها ل متكذب الشاعر حين يقول: وخيلٌ ما يخر�' لها طعينٌ كأن قنا فوارسها ثُمامُ
مليارات لا عد لها ولا حصر من أنواع العملات الصعبة من الدولار إلى الفرنك الفرنسي إلى الجنيه الإنجليزي إلى الروبل الروسي.. تم با شراء كميات من الأسلحة تكفي لتحرير اعالم كله وليس فقط فلسطين، وللدفاع عن المجرة الشمسية برمتها وليس فقط عن الوطن العربي.. لكنها كلها للأسف الشديد ضاعت في الرمال والبحار، وفي أجساد العرب ومدنهم وممتلكاتهم أنفسهم!
وعلى أساس هذه التجارب العربية مع السلاح؛ صار من المفهوم لماذا لم يكن لصفقة سلاح مزعومة بين مصر وروسيا أي أثر في النفوس! ولا التمعت عين بفخر، ولا تناوشت النفوس شيء من الأمل كما كان يحدث سابقا.. فقد علمت الشعوب التجربة أن شراء السلاح وتخزينه هو الغاية الاكثر أهمية في حد ذاتها ثم ياتي بعدها: الاستعراضات العسكرية، وقمع الشعوب عند الحاجة!
هذه هي قصة السلاح العربي (العربي: مجازا بحكم الملكية!) في مجملها، وقليل ما تمردت عن هذا السناريو المقرر! أما امتلاك السلاح لاستعماله ضد العدو المغتصب فأمر لا يحدث إلا نادرا في حالة الاضطرار فقط.. والضرورة تقدر بقدرها!
••• بين شراء السلاح وخزنه وصناعته واستعماله ضد العدو يكمن الفارق بين الإرادة الحرة و الإرادة اللاهية اللاعبة بقدرات الأوطان.. وكل دولة أرادت أن يكون لها إرادة حرة لجأت إلى تصنيع السلاح وليس شراءه واللعب به.. ومنها من كان يمكن لها أن تكتفي بأصدقائها في توريده إليها لكنها رفضت وأصرت على صناعة سلاحها وبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك ( الصين مثلا وإسرائيل ايضا!).. ونحن ابنلانا الله بحكام قصارى ما يفهمونه من قصة السلاح هو شراؤه وتخزينه ثم تسيمه للعدو يدمره متى يشاء وبأسلاع وقت ممكن.. ولا يرون في ذلك هزيمة لأن الهزيمة الحقيقية عندهم يوم يسقط نظامهم وليس طائراتهم، ويوم تضيع سلطتهم وليس أرضهم!
يا أمة ضحكت من صفقات تسليحها الأمم.. حتى أن بعض الدول البائعة للأسلحة تشترط ألا تستخدم إلا بإشرافها، وبعد تجريدها من بعض تقنيتها، وأن تتعهد الدول العربية المشترية ألا تستخدمها ضد.. إسرائيل!
ستون عاما مرت منذ فرح العرب بكسر احتكار السلاح.. ولم يفهموا من يومها ان كسر الاحتكار الحقيقي هو: يوم يكونون قادرين على تصنيعه وليس يوم يشترونه كما يشترون أدوات التجميل وغيرها من أدوات الزينة، والمتعة، والتسلية!
لا يساوي ألم المصير الذي صارت إليه الأمة مع أنظمة تفرح بشراء الأسلحة كما يفرح الطفل عند شراء.. إلا هذا الأمل الذي تمنحنا إياه المقاومة في غزة وهي نصنع أسلحتها ثم تستخدمه ضد العدو! وهذا هو الفرق!