ربّما لا يدرك أحد هؤلاء معنى الدولة الاتحادية القادمة، لكنهم يدركون بالطبع شعور النوم بجوف خاوِ وعلى أرضية متجمّدة. تتوزع كُتل بشرية على شوارع وأحياء العاصمة صنعاء، المدينة التي تكتظ بالأثرياء والحزبيين والأسر المتوسطة والفقراء ومتشردين تحتضنهم أرضية باردة وضجيج أبواق السيارات.
تردت أوضاع اليمنيين في حقبة حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح الطويلة، وتلازمت أزمات عميقة في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية، وازدهرت الحروب والصراعات واختراق القبيلة للحكم.
وطغت لغة السلاح وإثبات القوّة في العتاد ورجال الحرب، وامتدت لتعصف بالفترة الانتقالية التي تشهدها البلاد الآن.
يعيش كثير من المتشرِّدين في شوارع العاصمة على فتات المطاعم وتبرّعات الخيّرين، ورغم ازدياد عدد الجمعيات الحقوقية والخيرية إلا أن أعداد المعدمين والفقراء تزايدت بشكل مطرد، وهي حقيقة يرددها الناس.
في شارع الرباط الذي يشق الدائري باتجاه شارع الستين بصنعاء ينام رجل كث الشعر والذقن ذو بشرة بيضاء بالقرب من مطعم صغير، لا يعبأ بصراخ النادل وهو يرحّب بالزبائن.
عندما حاول أحدهم في السابعة صباحاً إيقاظه تحرك بهدوء وأخرج رأسه، وقال «ما تشتي؟ (ماذا تريد؟)»، كان يحاول تنبيهه بأنه يريد فتح باب متجره.
ورغم ذلك غيّر موقعه قليلاً وخر في نومه لا يعبأ بضجيج من حوله، وتكاد حركته المحدودة تمنح يقيناً بأنه ما زال حياً في هذا البرد القارس.
يتبادل كثير من الناس الحديث أن أغلب المتشردين في شوارع العاصمة هم رجال مخابرات يمتهنون في عملهم وسط البرد والأوساخ.
وفي أواخر نوفمبر الماضي، تُوفي شاب من تهامة في مدينة ذمار، قال سكان محليون في المحافظة إنهم عثروا على جثته وقد لفظ أنفاسه بسبب البرد.
في جسر العبور المتاخم لسوق السنينة تربض أكثر من سبع نساء يمددن أيديهن للعابرين ويتحدّثن بصوت حانٍ، ويجمعن نقوداً محدودة، اثنتان منهن تحملان طفلاً رضيعاً يصرخ حيناً وينام حيناً آخر.
تقدّمت طفلة جميلة وهي تمد يدها قائلة: «أريد مالاً لأداوي أمي المريضة»، قالت إنها من محافظة عمران تعيش مع أسرتها المكوّنة من تسعة أشخاص.
في منتصف الليل، بدا رجل نحيل طويل القامة وملابس متسخة مستعداً للنوم، اختار مكاناً يبعد متراً تقريباً عن متجر فواكه، وبدأ بفرد أغطية رديئة واستلقى ووجه نحو السماء، وقد غطى نصف وجهه.
لا تتخطى أحلام المتشرّدين حال منامهم كوب شاي ساخن وقطعة خبز. في شارع حدة الذي يعيش فيه كثير من الأثرياء، ظل رجل مستلقياً حتى الحادية عشر صباحاً بلا حراك، ثم نهض ببطء وظل يوزّع نظرات هادئة على السيارات المارة.
في ساعة الفجر بزقاق مُظلم في عُمق شارع الرباط، تصاعد صوت من مكان تتجمّع فيه المخلّفات، وبعد ثوانِ ظهرت امرأة بظهر متقوّس وهي تحمل كيسين مليئين بالقناني البلاستيكية.
ظلت المرأة التي تبدو قد تجاوزت الأربعين عاماً تقف بصورة متكررة في أي مكان تتجمّع فيه مخلفات منزلية، بحثاً عن قنانِ بلاستيكية وعلب معدنية.
وشهد اليمن طقساً بارداً في هذا الشتاء، وصلت درجة الحرارة في مناطق تحت الصفر، وتساقط «برد» كثير كسا بغطاء أبيض بلداتٍ في غرب العاصمة صنعاء، كان محل دهشة اليمنيين بالقول «إن الثلج سقط في البلاد لأول مرّة».
يسكن رجل ضخم ذو بشرة سوداء مع أمه رصيفاً في شارع الدائري، الذي كان مركزاً لاحتجاجات ومظاهرات أسقطت نظام الرئيس السابق، يبدو الرجل بثياب مهترئة وشعر يملأ وجهه أنه يُعاني من مرض نفسي، وتقوم أمه بتوفير الطعام بالتسوّل من مطاعم ومنازل قريبة.
لا توقظ موسيقى صاخبة تصدح في متجر بيع الأسطوانات الرقمية متشرداً ينام في زقاق قريب منه في شارع تونسبصنعاء، لا يسأل الناس عنه كثيراً ويظهر بعضهم شعور التقزز منه.
ورفعت الانتفاضة الشعبية التي تفجّرت مطلع 2011 شعارات مناهضة لإجراءات فساد مالي وإداري اتبعتها الحكومات المتتابعة للنظام السابق، وقال المحتجون إنها سياسة تجويع الشعب تعمّد تطبيقها.
قبل أعوام مات رجل ذو صوت جهوري ينعته الصبية ب«هزاع»، كان يتضايق ويلاحقهم حال ندائهم له بهذا الاسم، مات في زقاق يصل شارع الحُرية بشارع تونس.
ظلت أحاديث الناس تستطرد وجوده في المكان لحماية منزل تعيش فيه أسرة أوروبية، وشاعت أقوال إن رجالاً مجهولين يزودونه بطعام جيّد، قال سكان قريبون من مكانه إنه مات بعد أن شد حبلاً حول قضيبه.