لم تمنح حركة مكنسة عامل نظافة نشيط السكون في الساعة السادسة صباحاً لأحد أكثر شوارع العاصمة اليمنية صنعاء ضجيجاً، بعد أن غط سكانها في نوم عميق في أعقاب يوم مجهد. كان عامل النظافة يكنس بنشاط بالغ في شارع «هائل»، ويراود من يمر أمامه بعبارات يمكن فهمها، «لست وحدي الذي غادر مضجعه في يوم رمضاني آخر غابت عنه الشمس».
في صنعاء العاصمة، هناك فرصة قصيرة ليحظى المرء بالهدوء، ولعلّ وقت ما بعد الفجر في رمضان لحظات لا تعوض لممارسة أنشطة عدّة لا تخلو من الإجهاد والتّعب.
لم يكن عامل النظافة وحده اليقظ ذاك الحين، تردد شبان وفتيان على قارعة شارع هائل، يتبادلون الأحاديث والنكات، كان منهم باعة متجولون يحرسون بضاعتهم، وآخرون وجدوا هذا الوقت فرصة لاستنشاق هواء عليل لا يفسده دخان دراجة نارية يقودها سائق متهوّر.
الأمر سيان في شارع لا تغادره الجلبة، يكاد شارع هائل وهو سوق ممتد بمتاجر تتفاوت في حجمها، ويملأ أرصفتها باعة من مختلف الفئات العُمرية، أحد أكثر شوارع العاصمة كثافة بالناس، ويصبح المرور فيه خلال ساعة العصر أشبه بمخاطرة، وتلقين الذات دروساً من الهزائم.
وينتهي جزء كبير من جلبة هذا الشارع بصورة تدريجية تستبق إعلاء مآذن المدينة صلاة الفجر، لكنها تخلّف أكواماً من «الزبالة» تتكدس وسط الشارع وفي أرصفته وأروقته الكثيرة، وتقلّ حينها حماسة عامل النظافة مع كل تقدّم لا يجديه انتهاء العمل بشكل مبكر.
وترتبط حركة الشارع كثيراً بتوافد النساء والفتيات، اعتماداً على فكرة أن التبضّع هو تخصص نسائي بحت، يكون الرجال حينها مشغولين بتناول "القات" في سهرة لا تخلو من نقاشات سياسية جوفاء في إحدى ليالي رمضان.
الدائري ليس شارع هائل وحده من يمنحه اليقظون الحياة، في شارع الدائري المجاور كان بضعة من عمّال النظافة أيضاً يكنسون، ورجال يتبادلون الأحاديث ولم تكن وجوههم تشابه لحظات ما بعد الفجر الساحرة، وجوه يملأها التوجس والقلق، كان واضحاً تأثير القات.
كان ثلاثة مسلحين أحدهم لا يكاد وجهه يتبدى من كثافة شعره الذي يبدو أنه هجر التسريح والمشط، يتهامسون في إحدى زوايا الدائري، ويجاورهم باب مفتوح قليلاً.
ويكفي أن تلقي السلام خلال مرورك بهم، وتسرع في خطواتك، لعلّ ذلك أمر مجدٍ في مصادفة رجال لا تبدو عليهم أمارات الطمأنينة ومترعة بالمكر.
أمام بوابة الجامعة القديمة، كان بضعة شبان يحملون أكياساً بداخلها أكوام من الأوراق يتبادلون الأحاديث على طريقة سؤال وجواب، كانوا ينتظرون لحظة فتح البوابة لإتمام عملية التسجيل في كلية العلوم.
قال أحدهم: «منتظرين متى يفتحوا البوابة، علشان نسجل في كلية العلوم، وشوف الإعلان الملصق على الجدار لتتأكد». لمشاهدة ألبوم مصور هنا على جدار الجامعة، التي أسند الحالمون بالتسجيل ظهورهم، بدت رسومات المخفيين قسراً مشوّهة بعد أن طمسها مخرّبون، وأحاطوها بخطوط عبثية.
ليست هذه المرّة الأولى التي تتعرّض لها جداريات المخفيين قسراً التي عمل عليها الرسام الشاب مُراد سبيع وعدد من رفقائه في حملة على مدى أشهر امتدت لأكثر من مدينة للتشويه، تعرّضت جداريات كثيرة للحملة التي أسميت ب«الجدران تتذكر وجوههم» للطمس، لكن ذلك لم يؤثّر على حماسة مراد ورفقائه.
بالقرب من الجامعة القديمة، اكتظ محل للانترنت بشبان شغوفين بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، كان الجميع تقريباً يتنقلون من صفحة إلى أخرى في الفيس بوك.
وقال مالك المحل ل«المصدر أونلاين»: «يحضر الكثير من الشباب إلى هنا من بعد صلاة الفجر، ونظل فاتحين أبواب المحل حتى الساعة العاشرة».
وأضاف وهو يمرر «الملخاخ» على أسنانه ويشير بيديه إلى أحد الشباب «شوف هذا مداوم عندي من أول رمضان، وفي منهم لأول مرّة يدخل حقي المحل».
على قارعة الطريق، كان عدد من الكلاب الشاردة تتجول في شارع الدائري، وتمضي واثقة الخطى لا يفزعها أحجار طفل مشاغب.
وأواخر مايو الماضي أنفقت أمانة العاصمة نحو 20 مليون لمكافحة الكلاب، لكنها شوارع العاصمة ما تزال ممتلئة بالكثير من الكلاب، ولعلّ ذلك بادياً في شارع الخمسين ومنطقة العشاش، وهو أحد المتنفسات المحدودة في العاصمة.
الزبيري يجب أن تقابل نقطة عسكرية في شارع الزبيري، حاول جندي يستقل عربة السلاح الرشاش مغالبة النوم الهامد على جسده، وانبرى وهو يوزّع نظراته بتثاقل، ويحصي المركبات والمارة.
في أطول شوارع العاصمة اليمنية، يجب أن تجل تقديراً لمن مهّده، يتبادل اليمنيون طرافة عن عبثية تمهيد الطرقات، وكيف أن الصينيين وهم القائمون على مشروع تعبيد شارع الزبيري تجلت فيهم أخلاق العمل، وجعلوه أمثولة لأفضل الشوارع في اليمن عموماً، مقارنة بالعبث الحاصل في الشوارع المنفرة في البلاد.
لكن الشارع الذي شهد أعنف المواجهات التي اندلعت بين القوات الموالية للرئيس السابق والقوات التي أعلنت ولاءها للانتفاضة الشعبية، لم تغادره آثارها بعد.
بدت عمارة «لا إله إلا الله» ومبانِ أخرى شاهدة على ذروة الصراع على الأرض بين معسكري الجيش الذي تغاير ولاؤه، رغم تهاوي ذاكرة اليمنيين لشدة القتال الذي حدث، وبإمكان أي قاطن في تلك المنطقة أي يسرد حكايا مخيفة لتلك اللحظات.
ظلّ سائق دراجة نارية تحت جسر الزبيري ينتظر إشارة استجابة من أحد المارة طلباً «للمشوار»، ولم يعبأ وهو يبحث عن رزقه البائس عن معنى توزيع الضجيج في شوارع وأزقة المدينة الذي تصدره دراجته المتهالكة.
وبجواره كان متشرد يلف لحافه التعيس على جسده النحيل، ليطرد البرد الذي تسلل إليه، ولم يكن بالطبع عابئاً بالصخب الذي ستصدره السيارات والدراجات النارية في فترة الظهر.
ولعل من المصادفات أن يصدمك خبر تعرض أحد أنشط الشبان في ساحة التغيير بصنعاء للحرق، ويخبرك أصدقاؤه المفزوعون بالنبأ بأنهم لا يملكون قيمة إبرة، فيما خلا المستشفى الجمهوري، الذي نُقل للعلاج فيه، من الأطباء والأدوية.
وصبّ مجهول مادة البترول على الشاب مالك عبدالله صواف وأشعل في جسده النار.
وقال أصدقاء لمالك إن الأخير كان يقوم بالتنظيف كما هو معتاد يومياً في ساحة التغيير، وتفاجأ بشخص يسبه قائلاً: "ما رضيت ترحلك من هانا يا ....."، وشتمه بألفاظ نابية، ثم صب عليه البترول محاولاً إحراق وجهه إلا أن النيران اشتعلت في بقية جسده.
باب اليمن انطلاقاً من شارع الزبيري باتجاه باب اليمن، كان الطريق فسيحاً فيما أعداد السيارات المارة قليل جداً، أخذ بعض الناس خلو الطرقات فرصةً للتنزه مع العائلة، كما شوهدت سيارات ممتلئة بالعائلات، ويوحي إلينا الأطفال بابتسامتهم.
في باب اليمن، توزّع بضعة شبان وكهول في جوانبه وداخل أسوار المدينة القديمة، أخبرنا أحدهم عن وجوده في هذه الساعة بأنه ينتظر صديقه، وأنهى حديثه بتوعّد لصديقه المتأخّر، ولم ينس إطلاق ضحكة هستيرية.
ولم يفوّت رجل يبدو أنه في الخمسين من عمره هذه الساعات بالعمل، كان ينتظر ركاباً في سيارة الأجرة التي يملكها، ويوزّع نظراته في أرجاء الفُسحة المتّسعة أمام باب اليمن، بحثاً عن زبائنه.
لم نستطع تصوير بوابة المدينة القديمة خشية جنود نقطة تابعة للجيش، لعلّ العقلية العسكرية لم تتغيّر مع موجة التغيير التي اجتاحت البلاد، في التعامل مع الكاميرا والصحافة.
وسُرعان ما غادرت الدورية العسكرية حينها تمكنا من تصوير المكان، وأخذ أكثر من لقطة وزاوية.
لا يمكن وصف فضول اليمنيين حيال أمر جديد يطرأ على الشارع، تجمع عدّة أشخاص لأكثر من مرة أمام الكاميرا، وتكاد الاستفهامات التي أطلقوها متشابة «أيش بتصوروووووووا؟!».
داخل أسوار صنعاء القديمة، تقدّم شاب للحديث معنا، قال «تبع من أنتم»، قلنا له إننا صحفيان، ودون أن يسأل عن اسم الصحيفة التي نعمل أردف «أنا عمري ما قرأت صحيفة، أروح أشتري بقيمة الخمسين ريالاً حق الصحيفة سيجارة، وباكون مرتاح أكيد».
ميدان التحرير لعلّ أكثر شوارع العاصمة حيوية هو التحرير، كانت أصوات قذف الكرة عالياً، وأنت تهم بدخول ميدان التحرير.
توزّع أكثر من خمسين شاباً على مساحات كبيرة في الميدان للعب الكرة، وكان واضحاً النشاط والحماسة.
لم يكن من السّهل دخول ميدان التحرير إبان ذروة الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس السابق علي عبدالله صالح، كان مليئاً بخيام مناصريه وهراواتهم، ويصعب على أحد دخوله والمرور بسلام.
مضى أكثر من ثلاثة أشهر على مغادرتهم المكان، ويحتاج هذا المكان فترة ليستعيد ألقه، بدت الحديقة التي تتوسط منطقة التحرير تشكو علّة القذارة التي تجمّعت بداخلها، بعد أن كان المعتصمون هنا يفضلون قضاء حاجاتهم بين الأشجار.
يبدو محمد الدومري سعيداً وهو يرى الميدان الذي يتولّى حراسته مليئاً بالشغوفين للرياضة يقول: «يتجمّع الكثير من الشباب إلى هنا للممارسة الرياضة، وأكون حينها سعيداً».
ويؤجّر الدوسري أربع «عارضات» للمرمى، اثنتان بسعر 500، والأخرى ب 300 يومياً.
وقال وهو يوثّق جاكته الرياضي «أؤجر هذه العارضات للشباب من أجل أن يلعبوا وتقريباً يومياً تؤجّر ويتزايد أعداد اللاعبين في ميدان التحرير».
ورغم بساطة اللاهثين وراء «المستديرة»، كانت الحماسة بادية في طريقة لعبهم، ولم يكونوا عابئين بالإجهاد، لم يملك الكثير منهم أحذية رياضية، واستعانوا بأقدامهم العارية في تسديد ضربات ناجحة لإحراز الأهداف.