لا أستطيع الادعاء بأنني متفائل. على أن ذلك لا يعود إلى كون التجارب الست الماضية قد جردتنا تماماً وجذرياً من إمكانية التمتع بالمشاعر الإيجابية والمشرقة حيال المستقبل فحسب، بل لأن التشاؤم هو إحدى سماتي الشخصية الأكثر رسوخاً، ولأنه كثيراً ما يطبع نظرتي للعالم والأشياء بطابع سوداوي وحزين. مع ذلك سأتحايل على هذا الطبع المقيت. على سبيل المثال، فأنا سأفترض أن كتاب الحرب في صعدة يلملم أطرافه بصورة لا رجوع عنها، وأن التاريخ أخذ يهيئ نفسه عملياً لاستضافته كماض غير قابل للتكرار داخل السلسلة اللامتناهية لرفوفه، وسأفترض أن هذا الكتاب المفعم بالجراح والخيبة والألم سيظل بمنأى عن متناول اليمنيين لأجيال كثيرة قادمة، وحينما يفكر أحد الأحفاد الشغوفين نفض الغبار عن هذا الكتاب، فربما لن يفعل ذلك سوى لاستخلاص الدروس واستشراف المستقبل، وقد ترتسم على شفتيه ابتسامة هزء مائلة لأن في زمن أجداده الغابر كان ثمة سبب لخوض مثل هذه الحروب، ولأن ذلك السبب كان مفرطاً في تفاهته. الأسبوع الماضي قام الرئيس علي عبدالله صالح بتأليف 4 لجان من مجلسي النواب والشورى. تضم هذه اللجان، التي يقع على عاتقها مراقبة تثبيت وقف إطلاق النار، نخبة متميزة من الرجال المعروفين بالرزانة والنزاهة والنضج، إن لم يكونوا كلهم فغالبيتهم على ما أظن. ومن جهته يتوجب على الحوثي أن يدفع بأسماء يعملون على تجسيد رغبته المعلنة بالسلام، رغبته المتسامية والجديرة بالثناء. أظن أن اللجان تقوم الآن بكل ما هو ضروري لإرساء الاستقرار. وإذا تغافلنا عن التذمر من "مماطلة الحوثيين"، الذي أبداه، الأحد، لقناة الجزيرة، النائب علي أبو حليقة رئيس اللجنة الوطنية المشرفة على تنفيذ الشروط الحكومية الستة في محور مدينة صعدة، التي بموجبها توقفت المواجهات، وإذا اخترنا النظر بعين الاستخفاف إلى حالة انعدام الثقة الكامل التي عبر عنها يحيى الحوثي مستبعداً ديمومة وقف إطلاق النار، وإذا تفهمنا تفهماً موضوعياً تباطؤ الحوثيين في تسمية ممثليهم في اللجان، وإذا تغاضينا عن اتهام الحوثيين، الذي ورد على لسان الشيخ عزيز صغير عضو لجنة سفيان، بخرق الهدنة وقتل 5 عسكريين في سفيان، فإن الأوضاع في صعدة عموماً لا تزال تشيع مناخاً من الأمل والثقة المشوبين رغم ذلك بالحذر والارتياب واللايقين. حرب صعدة تعلّم المرء كيف أن عليه التحلي بريبية لا يسعها الثقة بشيء أو الإيمان بشيء. وكيف أن ما تبدو وكأنها حقائق لا سبيل إلى دحضها، ليست في نهاية المطاف سوى أوهام غبية أو ذكية لكنها تذكر المرء بمدى حاجته لامتلاك روح ديكارتية كل الوقت. أعرف أن إظهار الرغبة بالتفاؤل وحده غير كاف لتحقيق السلام المطلوب إنجازه. ثم إن الطريقة التي توقفت بها الجولة الخامسة كانت أكثر مدعاة للتفاؤل والأمل مما هي عليه الطريقة التي انتهت بها الجولة السادسة. ففي 17 يوليو 2008، حين أعلن الرئيس إنهاء العمليات العسكرية، كنت من أكثر الناس ميلاً للتشكيك في الفرص، التي زعم الطرفان أنهم أتاحوها لإحلال السلام إحلالاً نهائياً في أنحاء صعدة وحرف سفيان ومديرية بني حشيش. حينها انتشرت موجة كبيرة من التفاؤل، لكني كنت كغيري من المشككين مستاءً من لامعرفتي العميقة بتفاصيل التفاهم الذي أجراه الرئيس علي عبدالله صالح شخصياً -كما كان شائعاً حينها- مع عبدالملك الحوثي، وأفضى إلى توقف الجولة الخامسة فجأة. وقررت حينها أن لامعرفتنا تلك وحدها كفيلة بوضع جدية وفاعلية التفاهم موضع شك. لست فخوراً بحقيقة كوني كنت منضوياً في معسكر المتشائمين إزاء النزاع في صعدة، أولئك الآلاف من الناس الذين حالفهم الحظ، إن جاز التعبير، ووجدوا كم أن نبوءاتهم، المليئة بالتطير والشك، قد تحققت حرفياً و"مثل فلق الصبح". لا شيء هنا يستحق الاعتزاز. ولا يقدم التطير للمنذرين بالسوء دليلاً على نباهتهم ونفاذ بصيرتهم. كل ما في الأمر أن أسباب الإخفاق كانت حينها وما تزال ظاهرة للعيان. ولسوف ينقسم الناس مذاك إلى معسكر المتشائمين ومعسكر المتفائلين تبعاً لدرجة الاعتراف بأسباب الإخفاق التي كانت ماثلة كحرب. فكان المتفائل هو الذي يقرر فقط أنها لم تعد موجودة، ظناً منه أن مجرد نكرانها سيضمن له مقعداً ملائماً خارج دائرة تجار الحرب المنضوين في صفوف معسكر المتشائمين حصرياً وبلا هوادة. ليلة الخميس الفائت، وبحلول لحظة سريان وقف إطلاق النار، طرح التشاؤم نفسه في صورة معلقين وخبراء بهندام أنيق وربطات عنق. لقد أطل هؤلاء عبر الفضائيات وشبكة الانترنت، وراحوا يقللون من شأن الاتفاق وينذرون بحرب سابعة لا مفر منها. بمعنى آخر؛ كانوا يتحدثون برصانة عراف، أي بنزعة يقين كلية ومثيرة للفزع. بمقدوري تفسير هذه النزعة، بل وحتى التماس العذر لها. أقصد النزعة التشاؤمية المهيمنة هذه الأيام. فالاعتقاد السائد هو أنه عندما يتعلق الأمر بصعدة، فإن الحصافة ورهافة الحس تقتضي من المعلق والخبير الانحياز لأكثر الاحتمالات سوءاً وغرابة، لاسيما وأن الأحداث لا تنفك تبرهن المرة تلو الأخرى بأن وجهات نظر المتشائمين هي الأقرب دوماً للواقع، وبالتالي هي الأصدق والأذكى. والمسألة بكل بساطة هي أنه لا أحد يرضى لنفسه أن يبدو ساذجاً مهما كلفه الأمر من ثمن. لهذا زاد في الأيام القليلة الماضية عدد الملتحقين بمعسكر المتشائمين. لكنني عبثاً وجدت أن علي اقتفاء أثر المتفائلين هذه المرة، في وقت لا شيء فيه مؤكد أكثر من خيبة الأمل والمرارة التي تتربص بالمتفائل جرياً على العادة أو كنتيجة طبيعية لاستمرار تفوق عوامل الحرب في صعدة على عوامل السلام. سأقول لكم كيف أن أسباب السلام لا تزال ضئيلة بالمقارنة مع أسباب الحرب. فإذا سلمنا بالمقولة التقليدية للفيلسوف العسكري الشهير كلاوزفيتز التي مفادها أن القتال هو ممارسة للسياسة بوسائل أخرى، وإذا اتفقنا على أن النزاعات تنشأ دائما عن وضع غير سوي، وعليه فإن السلام لا ينتهي عند توقف المعارك بل هو سلسلة الإجراءات اللاحقة التي يجب أن تنتهي بإعادة الأمور إلى نصابها بشكل كامل. اللجان الوطنية لا تصنع السلام بالتأكيد. ذلك أن العمل الذي يفترض أن تضطلع به يتلخص في تثبيت وقف القتال وفتح الطرقات وأشياء أخرى من شأنها العودة بالوضع إلى ما كان عليه قبل نشوب الحرب السادسة. وهذا يعني فقط التمهيد للجلوس على طاولة الحوار أو التفاوض أو سمه ما شئت، أو بكلمات أخرى التمهيد للسياسة التي سيقوم من خلالها الطرفان بملامسة الأسباب الجوهرية للصراع ومعالجتها كلياً. أريد القول باختصار أن الجزء الأساسي من مهمة فرض حالة السلام الدائم منوط بالحوثي في المقام الأول. في تقريرها الصادر قبيل اندلاع الحرب السادسة، طرحت مجموعة الأزمات الدولية بضعة مقترحات لإنهاء الصراع في صعدة. من بينها "إعادة استيعاب الحوثيين في السياسة". تحت هذه النقطة كتب معدو التقرير كلاماً مهماًّ وبالغ العمق. وكالعادة أجدني مضطراً لنقل مقتطفات منه: "لا يزال من الصعب تحديد أهداف المتمردين. إذ إن القادة الحوثيين لم يسبق وأن ذكروها صراحة، قاصرين أنفسهم على رفض مزاعم الحكومة". بحسب التقرير، فإن فشل الحوثيين في صياغة برنامج سياسي متماسك، قوَّى من الشائعات بوجود مشاريع سرية سياسية وطائفية لديهم، وكذلك بعمالتهم للخارج. "ولو أراد المتمردون تيسير حل هذا الصراع، سيتعين عليهم تقديم قائمة بمطالبهم وشكاواهم على نحو مقنع –كتخلف صعدة وإقصائها، ووصم الهويتين الزيدية والهاشمية، واعتقال وتغييب المقاتلين الحوثيين والشخصيات السياسية والمفكرين المتحالفين معهم، والفشل الحكومي في تعويض ضحايا الحرب على نحو مرضٍ"، يقول التقرير. يقترح التقرير بأن مفتاح السلام الدائم سيكون، على الأرجح، في استيعاب الحركة الحوثية كحزب سياسي أو كحركة زيدية إحيائية دينية-ثقافية، أو الخيارين معاً. ويتابع قائلا: "والواقع أن مجموعة من الجهات الحكومية والمعارضة أيدت تحول المتمردين إلى حزب سياسي، وهو خيار قال الرئيس صالح نفسُه إنه يحبذه. وبالمثل، فإن علي الآنسي، رئيس جهاز الأمن القومي ومدير مكتب رئاسة الجمهورية ادعى أن تحول الحوثيين إلى حزب سياسي هو شرط مسبق للسلام، شريطة أن يحترم الحزب الدستور وألا يكون قائماً على التمييز ضد الطوائف الأخرى". وينقل تقرير الأزمات الدولية عن من وصفه بالصحفي المطلع قوله، إن عبد الملك الحوثي رفض الفكرة صراحة "لأنه يريد للحرب أن تستمر بشكلها كحرب للدفاع عن النفس". وأضاف: "لقد قال إنه لو صاغ برنامجاً سياسياً لبدأ الناس بالقتال للدفاع عنه، وهذا ما يرفضه هو. قد يفضل قادة المتمردين سيناريو مختلفاً يركزون فيه على النشاطات الدينية الزيدية، مفترضين تسامح الدولة والأطراف الأخرى، بالأخص الجماعات السلفية، مع التنوع الديني". على أية حال، يقع على عاتق الحوثيين وحدهم صياغة الفكرة التي يحاربون في سبيلها. ثم إن عليهم إعلانها على الملأ. عندها يمكن لمعسكر المتفائلين، وقد أصبحت منهم أخيراً، تذوق طعم السلام الذي يتوق إليه، مرة واحدة وإلى الأبد. لقد توقف القتال، وأحب النظر إلى الحوثيين بطريقة مختلفة حقاً. المصدر أونلاين