كان واضحاً أن اجتماع لندن بشأن اليمن (27 يناير 2010م) والذي استغرق ساعتين فقط لم يكون سوى جلسة استماع لمجموعة من التوجيهات والالتزامات، ومحطة انطلاق لسلسلة مترابطة من القضايا والأجندات، وبالتالي فإن لقاء الرياض الذي سينعقد أواخر هذا الشهر يمثل المحطة الأكثر أهمية في مسار التوجهات القادمة.. وذلك للأسباب التالية: * أولاً: أن المشاركون في لقاء الرياض سيركزون على البحث في العوائق التي تحول دون تقديم دعم فعّال لليمن، بما في ذلك عمليات الإصلاح ذات الأولوية- حسب ما نص عليه بيان لندن- وهذا يُمثل لُب المشكلة بالنسبة للحكومة اليمنية ويحملها مسئولية تقديم المبررات المقنعة وتفنيد ما سيُطرح من استجوابات حول عدم التزامها في تنفيذ التوصيات التي أقرها مؤتمر المانحين في لندن 2006م، وعجزها عن استيعاب التعهدات الدولية السابقة، وفشلها في تقديم آلية عملية وواقعية وشفافة.
* ثانياً: أن عملية الانتقال من لندن إلى الرياض مثّل مخرجاً للسياسة الأمريكية والبريطانية من الإحراجات والحساسيات المتعلقة بعملية الأدوار الأمريكية والبريطانية فيما يخص التطورات الداخلية اليمنية وبالذات موضوع مكافحة الإرهاب والحرب المشتركة على تنظيم القاعدة، وهو ما يعني أن الإقليم سيتحمل التبعات والمعالجات المطلوبة وسيكون هو في الواجهة، وتبقى واشنطنولندن حاضرتان من خلال الدور الإقليمي ظاهرياً، وفي نفس الوقت تعملان معاً على تنفيذ وتوجيه ما هو مطلوب بالأساليب الغير منظورة مباشرة مع صنعاء.
* ثالثاً: أن علمية الانتقال إلى الرياض يعني عودة المملكة في إمساك الملف اليمني كاملاً كما كان الحال في السبعينات والثمانينات وهو ما يعني هيمنتها على مختلف الجوانب.
وبالتأكيد فإن المملكة ستُعيد رسم تحالفاتها وصياغة علاقاتها مع اليمن في ضوء المستجدات التي تعيشها اليمن نفسها، وفي ضوء التطورات التي حدثت في الحدود من خلال المواجهات بين الجيش السعودي وجماعة الحوثي.
*رابعاً: أن إمساك الرياض بالملف اليمني كاملاً في ضوء ما عاشته المنطقة من تطورات، وفي إطار ما ارتبط بالعلاقات اليمنية السعودية من حساسيات ساخنة في الفترة الأخيرة، يعني أن صنعاء ستبحث عن معادل موضوعي جديد للتخفيف من الهيمنة القادمة.
وبالنظر إلى أن بغداد كانت هي المعادل الموضوعي في ظل الزخم العراقي - خلال عهد الرئيس صدام حسين- فيبدو من مجريات الأحداث أن صنعاء قد ترى في قادم الأيام بأن طهران هي التي تستطيع أن تكون معادلاً موضوعياً، لما يمكن تسميته ب(الهيمنة الجديدة - القديمة)..وهو ما يفسر عدم قيام الحكومة اليمنية بتوجيه اتهامات صريحة لإيران في دعمها للحوثيين، وحرصها على إبقاء خط العلاقات اليمنية الإيرانية قائماً رغم كثافة ما كان يُطرح عبر وسائل الإعلام.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أهمية الضغوط الأمريكية على الحكومة اليمنية بعدم توجيه اتهامات صريحة ضد طهران، فواشنطن ستكون مستفيدة من تنامي العلاقات اليمنية الإيرانية في هذه المرحلة، بحكم قدرة النظام الحاكم في اليمن على أداء الأدوار المطلوبة، كما هو الحال في علاقته بالنظام العراقي السابق، حيث كانت تلك العلاقة تحظى بِرضا أمريكي منذ بداية الثمانينات، وحتى بعد عام 1990م ظلت واشنطن تغض الطرف عن مسار العلاقات اليمنية العراقية، رغم المواقف السعودية والخليجية المتشددة ضدها، غير مدركين درجة استفادة واشنطن من طبيعة تلك العلاقات في الجوانب المعلوماتية والاستخباراتية وفي إيصال بعض الرسائل المطلوبة.
*خامساً: سيتعزز توجه النظام الحاكم في اليمن نحو اعتبار طهران هي المعادل الموضوعي إقليمياً، في ظل الشعور بأن محور الاعتدال لم يقدم له ما كان ينتظره منذ الحرب على غزة (يناير 2009م)، وفي ظل تنامي ما يُسمى دور الجبهة السداسية الإقليمية الجديدة (ليبيا- سوريا- لبنان- إيران- تركيا- قطر).
وفي هذا السياق ستعمل صنعاء على تعزيز العلاقات اليمنية التركية، بالنظر إلى أن الدور التركي سيكون هو ضابط الإيقاع داخل هذه المنظومة السداسية، وهذا الدور يحظى برضا أمريكي بريطاني مشترك كما أنه سيكون دوراً مقبولاً من دول محور الاعتدال العربي باعتبار أنه يُمثل ضمانة تجاه أي ترجيح مذهبي سياسي على مستوى المنطقة.
*سادساً: ومن المؤكد أن أي تقارب يمني إيراني سيحظى بدعم بعض الأطراف الخليجية نفسها، وذلك بحكم تعدد وجهات النظر تجاه العلاقة مع إيران داخل مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي.. لكن هذا الدعم أو الرضا من قِبل بعض الأطراف الخليجية سيظل في الحدود السياسية المقبولة، شريطة ألاّ تتحول العلاقات اليمنية الإيرانية إلى بؤرة قلق إقليمي أو مصدر من مصادر التهديد لأمن واستقرار دول المنطقة كما حدث بالنسبة لاندلاع حرب الحدود بين جماعة الحوثي والجيش السعودي.
* سابعاً: تنامي العلاقات اليمنية الإيرانية مرتبط محلياً بمستوى العلاقات التحالفية بين النظام الحاكم اليمني مع بعض القوى السياسية اليمنية، ومرتبط إقليمياً بدرجة تعزيز وتطوير العلاقات اليمنية السورية، بحكم طبيعة التحالف الإيراني السوري، وبالنظر إلى أن كثير من القضايا لا يمكن الوصول إليها في طهران إلا من خلال بوابة دمشق، التي أصبحت تمثل عامل توازن بين إيران والعديد من الأطراف العربية.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن خط الوصول بين صنعاءودمشق مرتبط في بعض جوانبه بمستوى العلاقات التحالفية بين النظام الحاكم في اليمن مع بعض القوى السياسية اليمنية، ولذلك لا يمكن إغفال أهمية الزيارة التي قام بها مؤخراً إلى اليمن الأستاذ عبدالله الأحمر (الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي السوري) وما تحمله من دلالات وإشارات.
* ثامناً: ستظل صنعاء تنظر إلى أهمية العلاقات اليمنية المصرية وضرورة تطويرها، مهما كانت الظروف، بحكم موقع مصر داخل محور الاعتدال العربي وبحكم تشابك هذه العلاقات تاريخياً، وعمق الحضور المصري العسكري والأمني والسياسي في الساحة اليمنية عبر مختلف الفترات.
وحاجة الحكومة اليمنية للدور المصري متعددة الجوانب، فهو من ناحية يمكن أن يُمثل سنداً داعماً داخل مجموعة الاعتدال العربي، كما سيكون لمصر دور فاعل في إطار الترتيبات التي بدأت حلقاتها في اجتماع لندن، ومن ناحية ثانية تُشير بعض المعلومات الصحفية إلى أن الدور المصري سيشهد انتعاشاً مرحلياً في الفترة المقبلة عبر انخراط القاهرة في الخطة الأمريكية لمواجهة القاعدة في اليمن وذلك بالاستناد إلى قدرات مصر وخبرتها التي تفوق خبرة العديد من دول المنطقة في هذا الجانب.. ومن ناحية ثالثة، فإن حاجة النظام اليمني للدور المصري تبرز أيضاً في جانب الإدارة السياسية وكيفية التعاطي مع قوى المعارضة الوطنية بحكم نجاح التجربة المصرية في هذا الإطار، وقدرتها على تقديم الخبرات والاستشارات والتي من شأنها تمكين النظام على ضبط إيقاع الحراك السياسي بمختلف توجهاته وتكويناته.
وفي كل الأحوال يظل الحضور المصري في اليمن مقبول سعودياً بحكم طبيعة العلاقة القائمة بين السعودية ومصر، فهذا الدور لن يكون مضاداً وإنما سيكون رديفاً للدور السعودي سواء في إطار الترتيبات الأمريكية المطلوبة أو في سياق مواجهة الدور الإيراني والحد من تفوق نفوذه.
* تاسعاً: ولا شك أن طبيعة السياسات الأمريكية المتعلقة بعملية الترتيبات القادمة في اليمن هي التي ستحكم مسار العلاقات اليمنية السعودية والعلاقات اليمنية المصرية والعلاقات اليمنية الإيرانية.. وسيظل الرضا الأمريكي على النظام الحاكم في اليمن مرتبط أساساً بمدى القدرة على تنفيذ الالتزامات المطلوبة، بما في ذلك الموقف من مسار التسوية العربية الإسرائيلية ومتطلبات هذا المسار بأبعادها المنظورة وغير المنظورة.
* عاشراً: وبالتأكيد فإنه في ضوء ما أفرزته تطورات الأحداث التي عاشتها الساحة اليمنية في الفترة الأخيرة، بما في ذلك دخول الحوثيين في مواجهة مع الجيش السعودي، فإن المملكة ستعمل على تقييم المسارات الموجهة والمنظمة لعلاقاتها مع اليمن، وربما ستعيد رسم تحالفاتها على مستوى الساحة اليمنية التي ظلت تأخذ نسقاً اجتماعياً وجغرافياً محكوماً بالعديد من الرواسب التاريخية الغير قادرة على استيعاب طبيعة التطورات المتلاحقة.
وفي المقابل فإن النظام الحاكم في اليمن سيكون مُلزماً بإعادة النظر في الكثير من الأساليب والممارسات التي رافقت تطورات هذه العلاقة خلال العقود الماضية.
ولاشك أن النظام وهو يدخل منعطفاً جديداً في علاقاته الإقليمية والدولية، فإنه سيعمل جاهداً على إعادة ترتيب معطيات العلاقات السياسية مع مختلف الفعاليات اليمنية، بما يضمن قدرته على تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة والحصول على الرضا الإقليمي والدولي، وبالتالي ضمان استمراره وبقاءه.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، كيف يمكن أن تتعامل القوى السياسية اليمنية-المعارضة- مع مختلف هذه التطورات.. وهل هي قادرة في هذه المرحلة على إثبات وجودها كفاعل أساسي ورئيسي وفرض أجندتها الوطنية القائمة على مبدأ الشراكة الحقيقية..؟ أم ستظل محكومة بالزوايا والمنعطفات التي استطاع النظام أن يضعها فيها..؟وما هي البدائل الفردية أو الجماعية التي يمكن أن تمثل خيارات مستقبلية قادرة على الدفع بالنضال السلمي نحو آفاق رحبة.