ثمّة نماذج لا حصر لها لوقائع عنفٍ ارتكبت بدعوى نصرة الدين الإسلامي، على أنّ التاريخ ما زال يتذكّر جيّدًا عالمة الرياضيات المصريّة الأشهر "هيباتيا"، وإذا كنّا لا نريد الخوض كثيرًا في تفاصيل قصّتها، إلّا أنّها سُحلت- عارية- في شوارع الاسكندرية قبل أن ترجم بالحجارة ثم تُحرق جُثتها من قِبل متطرفين مسيحيين يعتنقون المذهب الملكاني، بدعوى أنّها كافرة. شهدت الديانة المسيحيّة، عبر تاريخها، جريان الكثير من الدماء في حوادث عنف، سواءً كانت صراعاتٍ "بينيّة" محورها الخلاف حول طبيعة السيد المسيح، أو حروب ضدّ الآخر- كالحروب الصليبيّة المتتابعة على الشرق الإسلامي.
ويمكننا- مثلًا- قراءة تاريخ الحروب بين المسيحيين اليعقوبيين والمسيحيين الملكانيين في مصر في القرن الخامس الميلادي لمعرفة مدى كارثيّة الحروب التي دارت في ظلّ ديانةٍ تقول نصوصها: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"، وهو الأمر الذي يمكن معرفة مدى كارثيّته، أيضًا، حال القراءة عن محاكم التفتيش، سيئة الذكر، التي اضطهدت المسلمين واليهود- بشكل خاص- تحت دعوى حماية الدين المسيحي من البدع والمهرطقين.
وإذا كانت القرون الوسطى قد شهدت- في أوروبا- سلطةً مطلقةً للكنيسة، رافقها تخلُّفٌ مجتمعيٌّ كبير، فإن آخر صراعات الكنيسة الكبيرة كانت ضد قادة عصر التّنوير، تشتعل الثورة الفرنسية، فيما بعد، وتشتعل معها أفكار روسو ومونتيسكيو، تنشأ الأفكار العلمانيّة كردّ فعلٍ صارخ ضد تحكّم الكنيسة، ويبرز شعار فصل الدين عن الدولة بشكلٍ مختلفٍ عمّا كان عليه في النّص الكنسي المشهور "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر".
على أنّه، وأيًّا كان عدد الضّحايا الذين سقطوا جرّاء هذه الوقائع، فإن الحرب العالميّة الثّانية كانت حربًا بين نظمٍ علمانيّةٍ بحتة، وهي الحرب التي تسببت بمقتل ما بين 50 إلى 85 مليون شخص ما بين مدنيين وعسكريين، أي ما يعادل 2.5% من سكان العالم في تلك الفترة.
وإذا كان لا يُسمح، الآن، بالتّشكيك في الهولوكوست أو عدد ضحاياها، فإنّ هتلر- وفق ما هو سائد- قد قتل 6 ملايين يهودي، كان يتحدّث عن الحل النّهائي، حقيقةً فقد حاول تهجير اليهود لكنّه لم يستطع، لم تكن لألمانيا مستعمراتٌ تسمح لها باتخاذ هذا الإجراء، في الوقت الّذي كانت فيه فكرة معسكرات الاعتقال فكرة نموذجيّة، لم يكن يتخلص من اليهود بشكلٍ عشوائي، كانوا يعملون بنظامٍ يشبه السُّخرة فيما يتم إرسال العنصر اللّانافع إلى أفران الغاز، على أنّ اللحظة النازية لم تكن لحظةً خارجةً عن تاريخ الحضارة الغربيّة الحديثة- القائم على نظريّة التطوّر- بقدر ما كانت تمثّل تجسيدًا بالغ الدّقة لهذا التاريخ، لحظةً نماذجيّةً مناسبةً تمامًا لتكريس فكرة الإنسان النيتشويّ الأرقى الذي أصبح معادلًا موضوعيًّا للإنسان الأوروبي، معبّرةً تمامًا عن الرؤية المادية التي تقول بأنّه ينبغي التّخلّص من الإنسان الفائض عن الحاجة.
لم تكن الحضارة الغربية الحديثة حضارةً لإعلاء شأن الإنسان إذن، بقدر ما هي حضارةٌ خُلّقت لإثبات "أنا" الدّولة، الدولة التي أصبحت إلهًا عند هيجل، لهذا فقد كان منطقيًّا ألّا تنشأ خلافاتٌ بين هتلر والمنظّمات الصّهيونية. كلتاهما، النّازية والصهيونيّة، كانتا تبحثان عن حلٍّ نهائي للمشكلة اليهوديّة.
في الفترة ما بين 1937 إلى 1939 تم تهجير مائة ألف يهودي ألماني إلى فلسطين، برعايةٍ من النّظام النّازي الذي سمح- قبل ذلك وفي عام 1934- للمنظّمات الصهوينية بإصدار مجلةٍ تتحدّث بلسانها، في الوقت الذي منع الجماعات اليهودية من مثل هذا الأمر.
لم تقف المنظّمات الصهيونية ضد عمليات الإبادة التي حدثت في ألمانيا، اتخذت موقفًا سلبيًّا تمامًا، حقيقةً لقد كان الأمر أكبر من مجرد الوقوف على الحياد، بن غوريون قال وقتها بأن بقرةً واحدةً في إسرائيل أغلى في قيمتها من دماء كلّ يهود أوروبا.
لم يكن من الغريب، إذن، أن تتورط شخصيات صهيونية كبيرة في تسهيل عمليات الإبادة التي قام بها النّازيون ضد يهود ألمانيا: ألفريد نوسيج، مثلًا، أحد مؤسسي الحركة الصهيونية مع هرتزل، وضع خطة متكاملة لإبادة اليهود الألمان (غير النافعين) وتهجير الباقين، وبعد اكتشاف أعضاء المقاومة اليهودية في جيتو وارسو لعضويته في الجستابو وتورطه في عمليات الإبادة، قاموا بإعدامه رميًا بالرصاص ونفذ الحكم في 22 فبراير 1943. لا يختلف الأمر مع شخصيات صهيونية مرموقة أخرى، مردخاي رومكوفسكي، مثلًا، آدم تشرنياكوف، حاييم كابلان، كورت بلومنفلد، ورودولف كاستنر.
اتفقت الغايات، إذن، واختلفت الوسائل. إسرائيل، بالتّالي، ليست دولة اليهود، لكنها دولة الحركة الصهيونية، اليهودية كقومية لا اليهودية كدين، ولهذا فإن عمليات الإبادة في صبرا وشاتيلا مثلًا لا يمكن نسبتها لعنفٍ قامت به دولة يهودية، لكنّه ينسب إلى دولة صهيونية ترى أن إسرائيل، الدولة، أصبحت إلهًا، رؤساء الوزارت باعتبارهم كهنة، ذلك أنّ إله اليهود اختفى، وفق الحاخام الأميركي الشهير إرفنج جرينبرج، بعد مرحلة الإبادة النازية، لتصبح الدولة الصهيونية ذاتها هي المطلق، الإله، أو أن الإله يحلُّ فيها، إنّ اللحظة الصهيونيّة هي اللحظة النماذجيّة الأكثر تعبيرًا عن رؤية هيجل: عندما تصبح الدّولة إلهًا.
وهكذا، وحينما يتعلّق الأمر بالعنف، فإنّه، ومهما كان الانتماء الديني أو الآيديولوجي للجماعات التي تنتهجه، لا يمكننا إنكار بأنّ هذه الجماعات إنّما تقوم بانتهاج العنف دفاعًا عن مقدّساتها، لكنّنا، في نفس الوقت، نرى أنّه من حقنا التساؤل عن ماهيّة هذه المقدّسات؟
ونرى، بالتّالي، أنّه سواءً بالنسبة للدين الإسلامي أو اليهودي أو المسيحي، أو حتى في النّظم التي تنتهج العلمانيّة أسلوب حياة، فإنّ المقدّس بالنسبة للجماعات التي تنتهج العنف ليس هو الذات المُتَجاوَزَة، إنّهم لا يقتلون النّاس دفاعًا عن الله، وفق تعبير آخر، بقدر ما يقتلون النّاس إثباتًا لذواتهم.
إثبات الأنا، التفوّق، القوة، والصراع الأزليّ على السّيادة، وهو الأمر الذي يوصلنا إلى نتيجةٍ تبدو غريبة: انّ دافع العنف، حينما يتعلّق الأمر بالجماعات التي تنتهجه، ليس دافعًا دينيًّا، حتى بالنّسبة للذين ينتهجونه تحت ذريعة الدفاع عن الدين، ولكنّه دافعٌ مادي، كموني، لا تنتهجه الجماعات التي تنتهج العنف عبادةً للإله، أيّ إله، بقدر ما تنتهجه عبادةً للذات، وإثباتًا للأنا.