ليتنا لا نحتاج الى ثورة لتغيير أحوالنا. ليتنا فقط نحتاج الى نوع من العتاب الجاد أو لفت انتباه المسيئين الى أساءاتهم وأخطائهم، فالثورة نار يضرمها الظلم الذي يقع على عاتق الشعوب المقهورة. تساق الشعوب في طريق الثورة مجبرة حين تكفر بالحياة البائسة وتلفظها مع كل هتاف يرفض الضيم، فالثورة شر لا بد منه. منذ آلاف السنين والإنسان يثور مكرهاً ولم يسبق أن أنجز ثورة ناعمة دون عبث حتى في الأديان السماوية! لا توجد ثورة "كن فيكون" حتى تلك التي قام بها أنبياء الله المرسلون من رب العزة والحق، فرغم قدرته على نصر أنبيائه في غمضة عين الا أنه شاء أن نتعلم أنه لا تغيير دون مقاومة ورفض. حين كان الله هو من أغرق فرعون وهدى سادة قريش فلماذا لم يحدث ذلك من اللحظة الأولى لإرسال رسله!
لم تعد الشعوب الأوروبية تخشى من الموت حين أنجزت ثوراتها فبذلت دماءها رخيصة في درب الحياة الكريمة، لذا كان في كل ثورة درس للظالم والمظلوم، فإن كان الظالم يريد ان يبقي على عرشه أكثر فعليه ان يبقي لشعبه بعض ما يخشى عليه ان هو ثار وقرر رفع ظلمه، أما حين يتمادى في سلبهم كل مقومات الحياة فهو بذلك يعطيهم جرعات الحرية التي سوف تفتك بعرشه وطغيانه مهما طال الأمد، في حين ان معظم الحكام يبدون تلاميذ متغيبين عن هذة الدروس، الا ان الشعوب تستحضرها حتى ان كانت ترزح تحت وطأة الأمية فنجدها تعي تماماً أن عليها تحمل تبعات ثوراتها، والصبر على العبث الذي تحدثه الثورات.
أما إن كان لازال لديها ما تخشى عليه فنجد الشعوب تتردد كثيراً وتقاوم أي فعل ثوري ليس رغبةً ببقاء الظالم أو خوفاً عليه، إنما تحسباً لما يتربع في ذاكرتها من تشوهات لثورات سابقة أو قد تكون معاصرة لا زالت آثارها لم تندمل بعد.
فهل على الشعوب أن تثور حتى إن كان بإمكانها أن تصنع تغييراً ناعما بالحوار أو عبر صناديق الاقتراع؟ أم أنه اذا حضر التغيير الديمقراطي بطلت الثورة؟ قد يبدو هذا التساؤل إما سابقاً لأوانه أو متأخراً عنه ولكن بأخذ جرعات مناسبة من التفاؤل والتأمل معاً سنجد أن هذا هو ما علينا التزود به في المرحلة التالية.
جرت سنة التغيير أن تنتقل من الخيارات السلمية الى العنيفة ثم الى الديمقراطية الأقل خسائر والأجدى نفعاً. حين تكون خيارات الديمقراطية لا زالت واردة وفي متناول إرادة الشعب مهما بعدت فلها الأولوية، لذا على الشعوب ألا تقدس الثورة أكثر مما تستحق، فتصبح الثورة غاية لا وسيلة فتجدها لا تعي جدوى ثورتها قبل إشعالها فأينما وجدت ما يثير غضبها أشعلت ثورة إيماناً منها أن الثورة تظهر متى تشاء عرفاناً بما أحدثته من تغيير، فما جدوى الثورة إن كانت ستحول اللص الى قاتل ثم قد تحوله الى بطل قومي؟ ما جدوى أن نثور لنثور؟