الشهيد الزبيري في رسالة للأحرار: لا ثقة عمياء.. ولا شكّاً أعمى. الحرب النفسية التي يتعرض لها مشروع التغيير في بلادنا ومن يحملون لواءه ويعملون في سبيله لا تخفى على لبيب أو متابع. هذه الحرب -رغم سهولة مواجهتها لمن يعرف مصدرها وبواعثها- لا يصح الاستهانة بخطرها وأثرها على جماهير الشعب اليمني. وليست الوسائل الإعلامية الرسمية وغير الرسمية هي الوسيلة الوحيدة لهذه الحرب، بل يتم استخدام وسائل الاتصال الشخصي من خلال المقايل والمنتديات والتجمعات لنشر الشائعات والاتهامات وترويجها في أوساط الشعب. ومع أنه لا يمكن لأحد أن يدعي الكمال لمشروع التغيير أو لمن يمثلونه، إلا أن هذه الحرب لا تستهدفهم في حد ذاتهم بقدر ما تستهدف أن يبقى الشعب والوطن في دوامة الاستبداد والفساد.
ويمكن رصد ثلاثة محاور للحرب النفسية التي يتعرض لها مشروع التغيير وحملة لوائه: المحور الأول: التخويف من عملية التغيير بطريقة تؤدي إلى زيادة معدل "رُهاب التغيير" لدى الجماهير، حيث يتم تصوير التغيير على أنه نقيض للأمن والاستقرار، وأنه لن ينتج إلا المزيد من التدهور.
المحور الثاني: مهاجمة من يحملون لواء التغيير والتشكيك في نواياهم واتهامهم بالفساد والعمالة ...الخ
المحور الثالث: ويتم استخدامه كلما زاد وعي المخاطبين، ويتمثل في "لعن" الواقع ومشروع التغيير، والسلطة والمعارضة في محاولة لإظهار الحياد وزيادة في التضليل والخداع.
والحقيقة أن حملة التشكيك والتجريح ضد المعارضة ليست جديدة. فقد كان للأحرار اليمنيين نصيب كبير منها. ولأبي الأحرار محمد محمود الزبيري - يرحمه الله – مجموعة مقالات تم جمعها في كتيب حمل عنوان: "النعمان .. الصانع الأول لقضية الأحرار" تتضمن تحذيراً واضحاً للأحرار والجماهير اليمنية من هذه الحملة الخبيثة. وفيما يلي نص ماكتبه الزبيري، ففيه من الوضوح والقوة ما يكفي للتوعية بأبعاد هذه الحرب النفسية التي لا يمكن لمشروع التغيير أن ينجح إذا لم يتم فهمها ومواجهتها. وما أشبه الليلة بالبارحة.
"لا أقول ما أقوله الآن تبجحاً ولا زهواً، ولكني أقوله دفاعاً عن القضية الوطنية، التي انبرى لها هذه الأيام جحفل جرار من العملاء والمشككين والمأجورين. إنهم يريدون أن يهدموا قضيتنا؛ فمنهم من يهاجم القضية مباشرة، ومنهم من يشكك ويضلل ويثبط العزائم ويبث روح اليأس والقنوط ويبرر سلبيته ونكوصه بإقناع الناس أن قضية الأحرار لا يمكن أن تنجح ولا أن تفوز، ومنهم من يحاول هدم الثقة بين الأحرار وبين الرجال المعروفين بوطنيتهم عند الشعب. وإن انعدام الثقة يعتبر ضربة قاصمة على حركة الأحرار، ما في ذلك شك.. غير أنا نرى أن الأحرار اليوم أكثر بصيرة وأشد وعياً من أن يقعوا فريسة للخداع والتضليل."
................. "إنني أريد أن أسلح الأحرار بسلاح من المنطق والوعي، يسحقون به كل كيد يوجه إلى قضيتهم وإلى جبهتهم، ويصبحون به في مناعة من التمزق والشتات والاضمحلال. يجب أن يتذكر الأحرار أن أقوى سلاح اليوم وقبل اليوم في يد الظالمين هو القضاء على ثقة اليمانين بأنفسهم ورجالهم، وإقناع الكافة أنه لا يوجد في الأربعة ملايين من أبناء الشعب اليمني جماعة ولا أفراد يمكن الثقة بهم، والاعتماد على ضمائرهم، وذممهم ووطنيتهم. ثم الزعم بأن هذا الشعب العربي الأبي لا يستطيع أن يتحرر من الرق، ولا أن يرفع رأسه بالعزة، ولا أن يمارس حياته كشعب من البشر، دون أن يكون عبداً مترفاً لبضعة أفراد من الآلهة الزائفين: من أجلهم يكدح ويتشرد، ومن أجلهم يحيا ومن أجلهم يموت.
يريدون أن نفهم.. أن أربعة ملايين من أبناء الشعب لا يستطيعون أن يتجمعوا ولا أن يتحدوا، إلا تحت ظلال السيوف والحتوف، وتحت أعباء الرعب والرق والعبودية. فإذا هم أرادوا أن يتكتلوا حول مبادئهم وأهدافهم متحررين من الخوف، وأن يتبادلوا الثقة فيما بينهم بدون أوامر ولا كرابيج، فلن يكونوا يومئذ إلا لصوصاً ومرتزقين.
ونحن نريد أن يفهم الشعب.. أن فيه رجالاً، وأن فيه قادة، وأن لهؤلاء الرجال من صفات القيادة ما يؤهلهم لثقة الشعب بهم ويمكنهم من أسباب النجاح. ولا أحب أن يفهم أحد أنني أدعو إلى ثقة مطلقة عمياء، وإنما أحذر من الشكوك المطلقة العمياء.
ولهذا لم أقل للناس: ثقوا بنعمان وأغمضوا أعينكم. وإنما بسطت الحقائق الناصعة والأدلة الدامغة التي لا يجادل فيها إنسان؛ لأضع بين يدي الأحرار ميزاناً من المنطق يزنون فيه الإشاعات والشبهات إلى جانب ما يعرفونه من الحقائق بأنفسهم.
إن قبول الإشاعات بدون تمحيص ولا تحليل ولا موازنة.. هو الخطر الذي نحذر منه الأحرار، فإن السلاح الوحيد الذي يملكه الطغيان اليوم هو سلاح التشكيك وتثبيط الهمم، وبث اليأس والقنوط من نجاح القضية ونزاهة رجالها.
إننا نحذر من الشكوك المطلقة العمياء، ونحرمها على أنفسنا وعلى رفاقنا الأحرار تحريماً قاطعاً. إنها وباء قاتل، إذا لم نتخذ لأنفسنا أسباب الوقاية منه فلن يتألف لنا كيان، ولن يجتمع لنا شمل ولن يفلح لنا مصير.
إن أعظم وأخطر مهمة يؤديها الحكم الفاسد ويمارسها في شعبنا التعس ليحمي ظهره هي -كما قلنا ونكرر قوله- القضاء على ثقة الشعب بنفسه أفراداً وجماعات.
وإن أعظم وأخطر مهمة يؤديها الأحرار، هو أن يصنعوا من أنفسهم جماعة متحابة تسود بين أفرادها الثقة والأمل والإيمان بانتصار الحق مهما تألب عليه المبطلون.
هذه الثقة بالنسبة إلى الأحرار اليمانين بالذات، ضرورة قصوى لا يمكن الاستغناء عنها لأن تفرق الأحرار في أنحاء اليمن وفي أنحاء العالم، وضعف أسباب الصلات بينهم، يجعلهم فريسة سهلة للتشكيك والتمزيق. إننا لا نريدها ثقة مطلقة عمياء، وإنما نريدها ثقة ثابتة قوية، إذا سمع الأحرار ما يزعزعها فليوازنوا وليحكموا، وإذا لم تطمئن قلوبهم فليبثوا شكوكهم إلى قياداتهم ولينقدوها بصراحة، وليتصلوا بها مباشرة مهما كان الاتصال عسيراً. فربما كان عند قيادتهم تفسير للأمور لا يهتدون إليه بأنفسهم.
أيها الأحرار: اتحدوا وتكتلوا وآمنوا بأنفسكم فإنكم إن لم تؤمنوا بأنفسكم فلن يكون لإيمانكم بالمبادئ أية قيمة عملية.
السبيل الجديد للعملاء اعلموا أن أسلوب الطغيان في الدعاية قد تغير. لن تسمعوا اليوم عميلاً من عملاء الطغيان المأجورين يأتي فيشتم مبادئكم أو يدعوكم إلى الكفر بها أو يعيركم بأنكم دستوريون لكي ترجفوا من الخوف، وتلعنوا "أبو الدستور وخاله وعمه وزوجته". كلا.. لن تسمعوا من عملاء الطغيان اليوم هذه اللغة والأساليب العتيقة، فإنهم يعلمون أن الأحرار قد شبوا عن الطوق، ولكن العميل المأجور أو المخدوع سيشكك فيمن تتعاونون معهم، وفي إخلاصهم ونزاهتهم، ثم يشكك في إمكان النجاح، بحيث تشعرون أن قضيتكم فاشلة ومهزومة، لا مستقبل لها.
وأنا لا أقول أن كل من ينتقد الأحرار عميل مأجور، فإن من الناس المخلصين من تدفعه غيرته إلى النقد والمعارضة، ولكن اللبيب الحر لا يخفى عليه أسلوب المغرض وأسلوب البريء.
ولعل قائلاً أن يقول: ولماذا فشلت الثقة بين فلان وفلان من المطرودين من الاتحاد؟ والجواب على ذلك: إنا لا نزعم العاملين في حركة الأحرار ملائكة، وإنما نريد أن تسود بينهم الثقة مبصرة واعية.. ثقة الأحرار بالأحرار. ولكن ليس معنى هذا أن فساد الثقة في أشخاص تعني فساد الثقة بين الأحرار جميعاً.
ولقد كنا في بداية الأمر وثقنا بهؤلاء النفر، ثم كشفت التجارب الطويلة عن ضعف في أخلاقهم الوطنية. ولكننا لم نحكم عليهم بمجرد الشكوك، ولم ندع الناس إلى الشك فيهم بطريقة عمياء، بل تتبعناهم طويلاً، وتركنا شكوكنا في أنفسنا، حتى أسفروا بوجوههم، وكشفوها للناس، وانضموا إلى دور الضيافات المتوكلية ورفعوا أصواتهم عالية يدعون فيها الشعب أن يستسلم للواقع وأن ينصرف عن الكفاح، وأن لا يبحث عن الجنة إلا في ظلال السيوف والكرابيج".