العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    الرئيس العليمي: هذه أسباب عدم التوصل لسلام مع الحوثيين حتى الآن    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    على طريقة الاحتلال الإسرائيلي.. جرف وهدم عشرات المنازل في صنعاء    التعاون الدولي والنمو والطاقة.. انطلاق فعاليات منتدى دافوس في السعودية    ميسي يصعب مهمة رونالدو في اللحاق به    الهلال يستعيد مالكوم قبل مواجهة الاتحاد    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    جامعي تعزّي: استقلال الجنوب مشروع صغير وثروة الجنوب لكل اليمنيين    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    ما الذي يتذكره الجنوبيون عن تاريخ المجرم الهالك "حميد القشيبي"    تجاوز قضية الجنوب لن يغرق الإنتقالي لوحده.. بل سيغرق اليمن والإقليم    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    تشيلسي ينجو من الهزيمة بتعادل ثمين امام استون فيلا    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    قبل شراء سلام زائف.. يجب حصول محافظات النفط على 50% من قيمة الإنتاج    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    ارتفاع إصابات الكوليرا في اليمن إلى 18 ألف حالة    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح من فگر الثورة اليمنية عند الشهيد محمد محمود الزبيري
نشر في الجمهورية يوم 07 - 10 - 2007

الزبيري من أولئك القلائل الذين تميزهم أعمالهم فإن صورة روحه الثائرة المتمردة نجدها في كل عمل من أعماله الشعرية مجتمعة ومنفردة بمافي ذلك ماأسماها هو بالوثنيات التي مدح بها الإمام عله يستجيب لنداء الضمير وكانت من خلال ماتحمله من أسلوب عاطفي رائع كفيلة بتليين ضمير الصخر ولكن لاحياة لمن تنادي.. بل وأكثر من هذا فإن روحه تمتد شأن قلة من المبدعين إلى كل أعماله النثرية وفي مسلكه في الحياة وكأن مجمل إبداعاته وحياته صورة متكاملة لكيان واحد.. لهذا سوف نكتفي في هذا المبحث باستعراض هذه الملامح من خلال بعض مقالاته التي نشرت بعضها في صحيفة «صوت اليمن» وجمعت لتصدر في كتيب من «132» صفحة عن دار العودة بعنوان «المنطلقات النظرية في فكر الثورة اليمنية» وكذا كتيب «الإسلام دين وثورة» وبعض دواوينه.
ويشتمل المبحث على لقطات خاطفة للزوايا التالية التي تناولها :
1- الواقع المظلم في ظل الإمامة
2- الحياة والشعر والتجربة الثورية من خلال فشل ثورة 1948- 1955م.
3- الوحدة الوطنية والقومية ودورهما في الخروج من المحنة.
4- الإسلام والثورة
لنر إذاً موجز آرائه حول كل من هذه الزوايا على حدة :
1- الواقع المظلم في ظل الإمامة :
البلدان التي تحررت من وطأة الاستعمار المباشر التي كانت واقعة في ظله ولاتزال بعضها أو التي خرجت من ظلام الحكم الملكي الفردي هذه البلدان عانى ابناؤها من ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية سيئة بدرجات متفاوتة في السوء وقد كان دافعها في الثورة هو أن المستعمر أو المستبد لايعمل على محاولة تجاوز واقعها الذي تعاني منه وتريد تجاوزه أو المفروض أن تتجاوزه لتحيا حياة البشر غير ان اليمن بليت بحكم لا ميثل لعفويته بين أنواع الحكم المستبد.. حيث إن أولئك الأئمة لم يكتفوا بإبقاء الواقع السيء كما هو لكنهم عملوا على خلق واقع أسوأ بل والأدهى أنهم اعتبروا مصيرهم مرتبطاً بضرورة المحافظة على حالة الجهل المسيطر لأن اعتقادهم الراسخ أن لابقاء لهم دون المحافظة على ذلك المستوى من الجهل الذي عاشته اليمن في تلك العهود..
الزبيري عاش الواقع في ظل الإمامة لا كما يعيش الفرد العادي بل بكل جوارحه وأحاسيسه المرهفة وعبر عن ذلك أصدق تعبير ففي صرخته إلى النائمين يقول واصفاً حال الشعب بعد أن امتص الأئمة دماءه وحاولوا بشتى الوسائل إماتة احساسه وأوصلوه إلى ماكان عليه قبل الثورة.
والناس بين مكبل في رجله
قيد وفي فمه البليغ لجام
أو خائف لم يدر ماينتابه
منهم أسجن الدهر أم إعدام
والاجتماع جريمة أزلية
والعلم اثم والكلام حرام
والمرء يهرب من أبيه وأمه
وكأن وصلهما له اجرام
والجيش يحتل البلاد وماله
في غير اكواخ الضعيف مقام
يسطو وينهب مايشاء كأنما
هو للخليفة معول هدام
والشعب في ظل السيوف ممزق
الأوصال مضطهد الجناب يضام «3»
كان اليمن في ذلك العهد الإمامي بمثابة سجن كبير سواء للعناصر التي بدأت تستنير فعانت من الاضطهاد المادي والمعنوي أو لبقية أبناء الشعب عموماً التي نالها التجويع والابتزاز.
لقد أكد الزبيري كما أكد الكثير ممن عاشوا واقع الإمامة أن ممارسات الحكم الإمامي كانت أبشع من الاستعمار رغم أن الاستعمار تحت أي قناع يرتديه يحمل الحقد على الشعوب المستعمرة ويضمر لها النوايا السيئة غير أن الغريب والمخزي أن يكون حكماً كالحكم الإمامي يوصف بالحكم الوطني مع أن ممارسات حكم يعده بعض المخدوعين من أفضل حكامه وهو الطاغية يحيى لاتضاهيها ممارسات المستعمرين.
ماذا يقول الزبيري :
لنسمع قول الشاعر المفكر :
إننا نخجل أن نقول بأن الاتراك كانوا قد بنوا مدرسة للصناعة في صنعاء قبل الحرب العالمية الأولى وجاء الإمام يحيى فحول هذه المدرسة سجناً.
وأغرب من الأغرب أن الإمام ظل يستعمل هو وحكومته وموظفوه الأوراق التي خلفها الأتراك كتوبة في وجه من وجهيها فكان يأمر الدوائر الحكومية أن تكتب في الوجه الآخر للأوراق التركية فتلتقي في الورقة الواحدة حكومتان حكومة مستعمرة وحكومة مستقلة ولغتان لغة عربية ولغة تركية ويتأتى من ذلك مفارقات تضحك وتبكي ويندى لها جبين الشرف اليمني بل جبين القومية العربية «4».
ويصف الزبيري ديكتاتورية الحكم فيقول :
إن هناك حكماً مطلقاً من كل القيود حتى من قيود الاعتبارات الديكتاتورية نفسها.
إن هناك فرداً واحداً في اليمن يعتقد أن سلطته من السماء.
الله هو الذي اختار ليحكم هذا الشعب، الله هو الذي يلهمه أن يعمل ويلهمه ألا يعمل، الله هو الذي يجعل من تصرفاته كلها شرائع تنسخ الشرائع وديناً ينسخ الأديان.
إن أبناء الشعب يتحولون إلى مجرمين ولصوص وقطاع طرق وتباح دماؤهم وأموالهم وأعراضهم بمجرد أن يغضب عليهم الإمام أو يغضبوا عليه «5».
الواقع الثقافي
تلك لمحة أليمة عن الواقع بشكل عام في العهد الإمامي فماذا عن الواقع الثقافي.
الزبيري يصف ذلك بقوله :
لقد عمل العهد الإمامي الأسود على محق العلم ومسخ المعرفة وتهديم دعائم النور والهدى وعمل على تثبيت ليل الجهل وترسيخ دعائمه وتعميق جذوره، ولقد حارب الأئمة في قسوة وشراسة ناتجين عن الرعب من كل مظاهر العمل والمعرفة وحرص حرصهم على مصيرهم نفسه على أن يظل ليل الجهالة الجهلاء مطبقاً لآفاق اليمن طولاً وعرضاً «6».
وأمام هذا الحرص كانت حركة الأحرار اليمنيين الأوفياء تتجه ولو ببطء إلى محاولة نشر الوعي بالوسائل البسيطة والامكانيات المتاحة وبحسب الظروف الصعبة وقد نمى في وعي الشعب من خلال التجربة الثورية مااستفاده من درس فشل ثورة 48م بأنه من ضمن الوسائل التي العمل على اتباعها وسيلة نشر الوعي وكشف أساليب الخداع التي يجب اتخذها ويتخذها الإمام وذلك لبناء قاعدة شعبية تشارك في استمرار البحث عن أفضل وسائل الثورة، التي تعمق الإيمان لدى الحركة الثورية بضرورتها وفقاً لمعطيات تلك المرحلة وأساليبها وأكدوا ضرورة زرع الإيمان بالثورة في أكبر وسط شعبي ممكن وبشتى الوسائل مع الدعوة من العناصر الثورية الحقيقية إلى اعتبار أن الواجب على كل من يريد صدق الانتماء للثورة أن يعي جيداً بأن العطاء لا الأخذ هو أول صفات الثائر الحقيقي.
دور الأحرار ودور الشعب في مقاومة الظلم الإمامي
من واجب الفرد أن يعي مدى العلاقة بينه وبين المجتمع بماتمثله هذه العلاقة من حقوق وواجبات لكلا الطرفين أو الجانبين نحو الجانب الآخر وهذه من بديهيات الأمور التي يوجب فهمها انتماء الفرد للجماعة إلا أنه ورغم كل الظروف فإن التفاوت الواضح بين الأفراد في التزامهم بمايوجب عليهم هذا الانتماء يظل قائماً وسيظل هذا التفاوت قائماً إلى حيث ينتهي تبعاً للتغيرات الجدلية والتطورات السياسية الناتجة عن الصراع الطبقي الذي هو محور الصراع السياسي لأي مجتمع.. كثير من الناس يوقفون مجهوداتهم بل وكل حياتهم في أمتهم وتحرير أوطانهم وهؤلاء قلة قليلة، والمؤمنون الحقيقيون بالثورة تصفو نفوسهم حتى من مجرد الشعور بأنهم يستحقون على ذلك جزاء ويسكن في أذهانهم شعور صادق بأن غايتهم النبيلة لا تعفيهم عن المساءلة للنفس ومحاسبة لأي خطأ من الأخطاء ينتج عن المشاركة في حركة النضال الواجب في سبيل القضاء على مخلفات الإمامة هذه المساءلة هي ماتسميه بعض المنظمات الحزبية والجماهيرية اليوم بالنقد والنقد الذاتي.. إن المناضل يدرك أنه بنضاله المخلص إنما يؤدي رسالة ذات قداسة ويشعر بأن سعادته تتحقق عندما تتحقق الأهداف العظيمة التي ضحى في سبيل تحقيقها.. بحجم هذا الوعي توجهت روح الزبيري لانتقاد حركة الأحرار وهو أبرز عقل ينبغي بالحياة في إطارها انتقد الكثير من الجوانب التي أدت في نظره إلى فشل الثورة في 1948م وكذا 1955م ومن أبرز الأخطاء أنهم خلقوا حاجزاً بينهم وبين الشعب، وأكد في كثير من المواقف والآراء أنه كان عليهم أي على الأحرار الالتصاق بهموم الجماهير على مختلف مستوياتهم واستيعاب أحاسيسهم لأن احساس الجميع واحد.
إنني أعتقد أن العبارة التالية للزبيري تحدد دور الفرد الحر ودور الشعب باعتبار أن دور الفرد لا يلغي دور الجماهير.. يقول :
والأحرار اليمنيون جزء من الشعب اليمني والقضية اليمنية ليست قضيتهم وحدهم وليست إرثاً عائلياً ورثوه، وإنما هم أحسوا بآلام الشعب فتقدموا نيابة عن الشعب كله وتقدمهم للقضية لا يسقطها عن الشعب ولايعفي طبقاته المختلفة عن التبعات والمسؤوليات أمام التاريخ «7».
هذا النص كما يتبين يحتاج لأكثر من نظرة تأمل لمايحتويه من أبعاد عميقة في مدلولاتها إذ ركز على أن القضايا الوطنية لاتورث ورثاً عائلياً.. وهذا يشكل نواة تستقى منها الأبعاد الديمقراطية في مختلف مراحل النضال الوطني ولن تستطيع أن تفلت من هذا الأساس والبعد أحدث النظريات السياسية.. ويزداد دور الفرد الحر أهمية كلما كان الشعب الذي ينتمي إليه عنده من القابلية الحضارية مايؤهله لاستيعاب متطلبات الحياة الكريمة في وصف الزبيري للشعب الذي وهب له حياته يقول :
شعب أمي ولكنه شعب عربي أصيل ذو ميراث كريم من الحضارة والعزة والأباء، لقد حرمه الحكم الإمامي من المدرسة والتعليم ولكنه اتاح له في هذه المعارك الدامية والمأساة البشعة مدرسة سياسية عامة شاملة دخل فيها الشعب كله بنسائه وأطفاله وشبانه وشيوخه وكسب فيها من الوعي والحقد والتصميم والتعلق بالحق والعدل والحرية فلا يمكن أن يكسبه في آلاف المدارس وفي عشرات السنين «8».
الحياة والشعر والتجربة الثورية من خلال فشل ثورة 1948م وبعض عوامل النجاح والفشل في نظر الزبيري
تلك الحياة التي عاشها الزبيري سواء داخل السجن الكبير «الوطن» الواقع في قبضة الحكم الإمامي أومشرداً خارج هذا السجن الذي كان يسمى حاكمه بالإمام.. تلك التجربة عمقت لديه روح الثورة وخلصت روحه الثائرة من كل الأهواء الذاتية وجعلته يشعر أنه بالشعر قادر على أن يعبث برؤوس الملوك يقذفها جواً ويطرحها أرضاً لأن تلك الحياة قد ولدت عنده حياة روحية قادرة على اكتساح المستحيل فقوته يستمدها من قوة روحية جبارةٍ.. وإذا كانت مناكب الأرض ليست مهاداً معبداً أملساً يجري فيها الإنسان كما يجري النغم في جوّ هو صحو، فكذلك الحياة كلها منحنيات وعقابيل وعراقيل وكذلك فإن الشعر لايجري إلا كماتجري الحياة على ظهر الأرض إذ هو صدى من أصدائها ونتيجة من نتائجها وقد يكون الشعر كما أتصور يعني الصدق الذاتي، كما يعني الصدق الموضوعي والذات منها الأعماق ومنها السطح ومنها القشور ومنها اللباب، فيها السوي والمعوج وفيها الشر والخير وفيها العدل والظلم وفيها الحيلة والالتواء وفيها الاستقامة والوضوح «9».
قد يقول قائل إن الذي نحب التعرف عليه هو خلاصة التجربة الحياتية والثورية التي خلقت فكر الزبيري والتي امتزج معها فصار وإياها جسماً واحداً والرد على مثل هذا القول لايكلفنا سوى مايقوله هو حول امتزاج الحياة بالشعر.. «قصتي مع الشعر هي قصتي مع الحياة» «10».
عصارة تجربة الزبيري أفرزها شعراًَ كما قالها نثراً وعمقها في النفوس من خلال مسلكه الزاهد إلا من الثورة ضد الظلم وبذلك أكد فعلاً أن الشعر عند الشاعر الحقيقي هو المعنى المرادف للحياة.. لنجتزئ هذه الأبيات من خطابه إلى الوطن..
الشاعرية في روائع سحرها
أنت الذي سويتها ووصفتها
مالي بها جهد فأنت سكبتها
بدمي وأنت بمهجتي أودعتها
أنت الذي بشذاك قد عطرتها
ونشرتها بين الورى وأذعتها
هذا الامتزاج الكامل بين الشاعر والوطن هو التأكيد على أن الحياة والشعر جسد واحد عند شاعر يرى الحياة بعين كعين الزبيري أو يحياها بروح كروحه.. وهذا الالتصاق بين الحياة والشعر يجعل أي تقييم لحياته ونضاله من خارج انتاجه على الخصوص انتاجه الشعري فإنه يجعل أي تقييم من هذا النوع لا ينم عن وعي بقدر ما ينبئ عن نوايا لا يعلم مدى سوائها إلا الله.
نص:
كنت مفتوناً بشعري إلى أبعد حدود الفتنة فلقد كنت أتناوله في جو روحاني يمنحني الغبطة مضاعفة ويعطني ثقة خالية بالنفس وأمناَ غامضاَ لامبرر له من الواقع المحسوس كما كان يشعرني بقوة الاستغناء عن كل مافي الحياة «11».
ويعبر عن ذلك شعراً في إعلانه المروع:
قوضت بالقلم الجبار مملكة
كانت بأقطابها مشدودة الطنب
فإن فشلت ولم أنهض بدولتنا
الكبرى لشعبي ولم أظفر بمطلبي
فسوف ابني له مجداً من الأدب
العالي يبوءه في أرفع الرتب
ولن يكون الذي قد كان من حدث مروع غير إعلان عن الأدب ويعلق الزبيري على الأبيات بقوله:
قال لي اأديب العربي الكبير الأستاذ/عمر بهاء الدين الاميري بعد أن استمع إلى هذه الأبيات..
ألست بهذا المعني المتجبر تشبه نيرون الذي أحرق روما ليستلهم الشعر والغناء؟!
فقلت: بلى بيني وبينه تشابه الاضداد إنه يحرق الشعب ليتغني أما أنا فإني أحرق الطغيان وأقدم جثثه للشعب أغنية مدوية تحترق ومن ثم تتحول وقوداً فنياً يحرك إدارة الشعب «12».
هذه ومضة خاطفة عن تجربة الشاعر الزبيري الممتزجة حياته بشعره فماذا عن تجربته النضالية من خلال بعض كتاباته النثرية..؟
في كتاب المنطلقات النظرية في فكرة الثورة اليمنيةضمن أبرز عناصر النقد والنقد الذاتي الثاني لأسباب فشل الثورة من خلال تجربة ثورة 1948م، 1955م.
وأبرز عوامل النجاح في نظره هو الالتصاق بهموم الجماهير على مختلف مستوياتهم كما سبق القول واستيعاب احاسسيهم كما أشار إلى ذلك وهذا ما لم يراعيه الأحرار مراعاة كاملة فقد اعتقدوا أن الامكنيات المادية باشياعها وحدها تكفي لنجاح الثورة لهذا يرى أن اعتمادهم على التجارب كان خطأ فادحاً لماذا؟
لأن التجار لا يشكلون إلا جزءاً صغيراً من القاعدة الشعبية وثانياً لأنه لهم مصالح يخشون تعرضها للخطر.. إن الأحرار أخطأوا في اختيار الوسيلة الناجحة في خطوة من خطواتهم مثلاً، بيد أنهم سخروا حياتهم من أجل هذه القضية وتفرغوا لها وضحوا في سبيلها بشبابهم وعائلاتهم وكل فرص الحياة التي يضيق بانفاق جزء منها الآخرون «13».
ويمكن تلخيص بقية أخطاء الأحرار حسبما ورد في نفس كتاب الزبيري في النقاط التالية:
اولاً: التعصب لما لقنتهم المدرسة وعدم التركيز على استيعاب الواقع بشكل أدق والعمل على تغييره بكل السبل مهما تحملوا في سبيل ذلك من المشاق والمتاعب.. ويرى أن هذا الخطأ أدى إلى بعض النتائج أهمها:
1 تنبيه الإمام في وقت مبكر لمقاومة الاحرار.
2 خلق حاجز بين الأحرار وبين الشعب.
3 تأخير سير المد الشعبي وإطالة عمر الطغيان.. مما جعل الحركة التحررية تتركز في الخارج.
ثانياً: انخداعهم بولي العهد الإمام أحمد فترة من الوقت والعجز عن تحديد الموقف وإيقاف النفس للنضال المستميت الثابت «14».
ثالثاً: اجتماع الشخصيات ذات التأثير في تعز.
ضم عبدالله أحمد الوزير علي بن حمود علي بن عبدالله الوزير الحسين بن الإمام يحيى، هذا الاجتماع اكتنفه الغموض والكتمان وقد أكد الزبيري أن الأمر الذي لاشك فيه والذي عرف فيما بعد أنهم عقدوا حلفاً رباعياً للوقوف ضد السيف أحمد وضد ولاية العهد وأضاف يقول:
ولم يعرف حتى الآن هل بايعوا أحداً منهم أم لم يبايعوه «15».
على إثر هذا الاجتماع اتخذ الإمام عدة إجراءات لتندلع نيران الحقد والمنافسة بين الشخصيات المجتمعة ومع ذلك أخذ بعض اجزاء من تعز وضمها إلى مقاطعة علي بن حمود في قضاء زبيد، ثم عزل علي بن حمود من زبيد واعطاءه مقاطعة أخرى في بلاد الطويلة ثم وبعد عزل علي بن عبدالله الوزير حشد الإمام يحيى آل الوزير في منطقة نفوذ السيد علي حمود ورغم معرفتهم بأن الإمام يتعمد الفتنة اندلعت نيران الحقد والمناقشة.
رابعاً: في عدن كل الأحرار إذا أرادوا أن يحملوا لواء حركة الأحرار توطين أنفسهم على تقبل نوعية قريبة من الجحيم وأن يشاطروا جماهير العمال المهاجرين حياتهم «16».
خامساً: اتكالية الشعب إلى الخوارق.. فقيام الأحرار بالثورة لا يسقط حقه فيها ولا يجب أن تشيع روح الاتكالية، أما عوامل النجاح في الثورة فمنها كما يقول:
اولاً: الثبات وعدم التراجع والعزم وعدم التأثر بالمقومات الإمامية والمخدرات والمساومات والمغريات.
ثانياً: تحطيم الاعتبارات الشخصية ومحو السحر من الصدور والقلوب «17».
ومن عوامل النجاح إدراك حقيقة أن الذي يخضع للطغيان ويؤثر العافية تحت رحمته، إنما يقوم دون أن يشعر بعملية انتحار وقضاء على معظم مواهبه الإنسانية وهو إذا سلم من البطش المادي القاتل فلا يمكن أن تسلم روحه الإنسانية.
تعقيب على بعض الآراء:
هذا التعقيب الذي أردت أن أورده هنا وفي هذه الزاوية بالذات يتعلق في حقيقة الأمر ببعض بما دار من مناقشات وحوارات حول تكنيكات الأحرار وتحركهم في عدن خلال وجودهم هناك إبان الاستعمار البريطاني.. فيما يخص اتصال حزب الأحزاب بالإنجليز في عدن أورد الأستاذ زكي بركات ثلاثة أسباب تبررها:
1 حاجة الأحرار لمنطقة الجنوب كمنطلق لحركتهم.
2 كون البرجوازية في عدن كانت تشكل جزءاً هاماً من حركة الأحرار وهي بحكم طبيعتها ذات مصلحة حقيقية مرتبطة بالامبريالية عامة والامبريالية البريطانية خاصة.
3 كان وعي الأحرار في تلك الفترة لا يستطيع الوصول إلى المدى الذي يمكنه من معرفة حقيقة الامبريالية وبالمقابل كانت رعاية الامبريالية في تلك الفترة بأنها حاملة رسالة التمدن إلى العالم المتخلف والبربري والمدافع عن شعوب العالم من خطر الشيوعية المزعوم تنطلي على الكثيرين ومهما يكن من أمر فإن مصلحة الأحرار الخاصة مصلحتهم النضالية كانت رغم المساومة في المحل الأول.
هذه هي الأسباب التي حاول الأستاذ زكي بركات أن يدافع بها عن الزبيري أمام ادعاءات الشهاري خاصة فيما يتعلق باتصال الأحرار بالاستعمار البريطاني قد جعله يعتبر الشهاري والجاوي حسب قوله قد وقعا في نفس الخطأ بطريقين مختلفين «18».
حول هذه التبريرات أود القول، إن لي عليها ملاحظتين مع تقديري لما تضمنته في مجملها:=
الأولى: إضافة سببين إلى نفس الأسباب أو التبريرات الثلاثة التي أوردها.
السبب الأول: أن الحكم الإمامي بما مثله من ظلم واستبداد كان بالفعل أبشع من الحكم الاستعماري، بل وتؤكد الكثير من المعلومات أن الإمامة كانت متواطئة مع المستعمر ومحققة لأهدافه سواء بالاتفاقات السرية أو العلنية أو من خلال أساليب الحكم التي تمارسها.. أما السبب الثاني: فهو أن موقف الزبيري من هذه المساومة كان موقفاً سياسياً ضمن حزب الأحرار، وهذا لا يعني أنه لم يكن مقتنعاً بموقف الأحرار، فالزبيري لا يتخذ موقفاً إلا ولديه قناعة به.. ولهذا فإن موقفه فيما بعد قد تبلور واتضح من خلال انتقاده ضمن هذه الأخطاء خطأ له صلة ما بهذا السبب وهو اعتماد الأحرار على طبقة التجار كعنصر أساسي وذلك لارتباطاتها ومصالحها.
وإلى جانب إضافة هذين السببين أود من خلال ماطرحه الزبيري الإشارة إلى أنني لا أتفق مع ما طرحه الأستاذ زكي في السبب الثالث وذلك فيما بينه السبب من عدم قدرة وعي الأحرار الوصول إلى إدارك حقيقة الامبريالية فتعميم عدم الوعي بهذه الحقيقة غير مقبول خاصة على الزبيري أثناء قراءتي لبعض آرائه شعرت بقدرتي على أن أجزم مائتين في المائة أن مثل هذا التعميم لاينطبق على الزبيري.. قد يقول قائل ان صياغتي لهذا الحكم وعلى هذا النحو فيه تغليب لجانب العاطفة على يقين أيضاً أن العاطفة أحياناً لاتكذب بل إن العاطفة الصادقة لاتكذب مطلقاً.. أقول هذا لانه ليس عندي بالتأكيد ماعند الكثير من الدارسين المتخصصين من الخلفية المعرفية عن الزبيري غير أن أقف مع من يقيم أي موقف من خلال ظروف الزمان والمكان.. لقد كان لدى الزبيري شخصياً كامل الوعي بل الوعي الثاقب بحقيقة الامبريالية وعبر عن ذلك بصياغته الخاصة ولا أعتمد هنا على العاطفة وحدها إذ أمامي الكثير من مقالاته التي تبين بكل جلاء كيف نظر إلى مثل هذه القضايا مثلاً :
يقول في النص المتعلق بانتقاد الاعتماد الأساسي على التجارة، «ولكن هذه الطريقة لم تكن كافية ولا حاسمة فما كانت تجتمع في هذه المجالس إلا فئة واحدة من اليمنيين وهم فئة التجار ومن على شاكلتهم وهؤلاء لهم مصالح واعتبارات تمنعهم أن يكونوا سنداً قوياً جريئاً لفكرة الأحرار كما كانوا أقل عدداً من أن تتألف منهم قاعدة شعبية واسعة «19» كما يقول أيضاً في المبررات الخاصة بعدم قيام الثورة قبل 48م بعد ذكر الامكانيات المادية التي اجبرتهم بالاعتماد على التجار رغم انتقاده ذلك، وثانياً الناحية السياسية فلم يكن الأحرار يستطيعون أن يقدموا على هذه الخطة إلا إذا أمنوا مركزاً لهم في المحميات كقاعدة للوثبة وهذامالايمكن إلا بالتعاون مع السلطات الانجليزية الأمر الذي لاتقدم عليه حركة شعبية تستهدف الخلاص والتحرر «20».
وممايوضح عمق وعيه السياسي والفكري في هذه القضية وفي غيرها من القضايا الوطنية والنضالية وبالذات حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية أو الاشتراكية ما قاله الدكتور عبدالعزيز المقالح مستشهداً بما طرحه الزبيري في مأساة واق الواق من أن العدالة الاجتماعية يجب أن تكون الطريق الحقيقي إلى الاشتراكية من خلال إتاحة الديمقراطية الحقيقية يقول الدكتور عبدالعزيز معلقاً على ذلك: «والزبيري بمثل هذه الآراء يسبق الكثيرين من أبناء جيله بل ومن أبناء جيلنا فقد كان شاعراً يستوعب التحول الموضوعي للواقع ويبشر الصوفية الدينية وعلى الرغم كذلك من محاولاته الدائبة على أن لا يتجاوز المألموف مسايرة منه لعقلية الغالبية العظمى من أبناء شعبه حتى ينفذ إلى أعماقهم ويكشف مواطن الداء فيها قبل أن ينفروا من دعوته «21».
كما أن قول الزبيري نفسه في ديوان صوت الثورة يعد من أهم الأسس التي يجب أن يرتكز عليها أي نقد علمي لأي قول أو فعل إنساني لا تدفعه النوايا الشريرة.. على أن المعيار الحق في وزن أقدار الرجال وادابهم واشعارهم لا يتجه إلى الاستثناء والمواقف المؤقتة والجانبية والسطحية وإنما ينبغي أن يتجه إلى تقييم الاهتمامات الرئيسية ومظاهر السلوك وأهدافه والطابع العام الأعمق والنهايات الكبرى.
الهوامش:
محمد محمود الزبيري الأعمال الكاملة ص95 96.
2 عبداللطيف الربيع «الكفن الجسد» 28
3 محمد محمود الزبيري الأعمال الكاملةص298.
4 محمد محمود الزبيري «المنطلقات النظرية في فكر الثورة اليمنية» 13.
نفس المصدر ص11.
نفسه ص88.
7 نفسه ص46.
8 نفسه ص19.
9 محمد محمود الزبيري «ثورة الشعر» ص9.
10 نفسه ص1.
11 نفسه ص11.
12 الأعمال الكاملة ص239.
13 المنطلقات النظرية ص46.
14 نفسه ص27.
15 نفسه ص30.
16 نفسه ص42.
1 نفسه ص34.
18 الزبيري شاعراً ومناضلاً مجموعة من الكتاب اليمنيين ص116 وما بعدها.
19 المنطلقات النظرية في فكر الثورة اليمنية ص37.
20 نفسه ص44.
21 الأعمال الكاملة ص19.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.