ليس هناك أخطر من التعميم والأحكام القاطعة في تناول الظواهر البشرية، وتحديد قواطع "أبيض أسود" لهذه الظاهرة أو تلك وفق انطباعات ذاتية متخففة من الموضوعية والمعايير العلمية! مناسبة الكلام هذا خاطرة عن التعصب الديني ومساوئه كتبها أحد الزملاء اليساريين الذي تجاوز موقف اليسار اليمني المهادن للحوثيين ومشروعهم الفكري، وبدأ مع ثلة من أمثاله ينتبهون إلى خطورته على حاضر اليمن ومستقبله، وأنه يخرج من نفس الكهف الذي خرج منه مشروع الأئمة الذين حكموا اليمن قرابة 1200 عام وأذاقوا اليمنيين فيها الويل، والمحن الدموية، وفرضوا عليهم حالة من التخلف المريع التي لم يعرفها شعب في القرن العشرين الماضي.. وها هم بعد القضاء على كيانهم السياسي يعودون من جديد بنفس الروح العنصرية الإجرامية المأثورة عن أسلافهم، ويكررون سيرتهم في سل السيف على رؤوس اليمنيين بحجج وأعذار مختلفة ليعيدوا الروح لمشروعهم المتخلف! وتقديراً لهذا الموقف المتميز لزميلنا المشار إليه؛ الذي يفرّق بين الخلاف السياسي وبين الانقلاب على أصول المسار السليم لبناء دولة العدل السياسي والمساواة والحرية؛ كان لا بد من توضيح الوجه الآخر في الأمر لما قد يكون التبس على زميلنا في حديثه عن التعصب بكل مساوئه، وجعله – كما قد يفهم من كلامه الفضفاض- مقتصراً على التعصب الديني وتحميله مسؤولية إعاقة ارتقاء الإنسان، وعن كل الموبقات التي تمارس في حق حرية الإنسان وتقدمه الحضاري! ومن باب إحسان الظن؛ فلعل الكاتب كتب خاطرته تلك تحت ضغط الوقائع الحادثة، والقلاقل السياسية والطائفية التي تجري في المنطقة العربية، ويبدو التيار الإسلامي (الديني) سنياً وشيعياً فيها في الصدارة! لكن كل ذلك لا يبرر أبداً الوقوع في موقف يعمم ولا يستثني ولا يعدل في التوصيف والحكم تحت ضغوط اللحظة والأحداث المتلاحقة، وخاصة أن هناك من أصحاب مشاريع الهيمنة العالمية والإقليمية الشريرة من يتولى الترويج الإعلامي والسياسي لتلك الصورة القبيحة للإسلاميين دون تمييز.. في الوقت الذي يمارسون فيه أفعالاً أسوأ وأقبح.. لكن خبرتهم التاريخية في المكر وقدراتهم الإعلامية الهائلة تمكنهم من إخفاء قبائحهم.. أو تمريرها وصرف الأنظار عنها بأقل الخسائر! من المهم الإشارة الى أنه في معظم الحالات التي تظهر ممارسات للتعصب الديني فمقابلها ممارسات لتعصب مناقض قد يكون علمانياً يسارياً أو قومياً أو وطنياً أو لا دينياً معادياً للدين، كما سيأتي لاحقا. التعصب آفة.. الجميع! لا شك أن التعصب خلة مرذولة عند العقلاء من المتدينين وغير المتدينين على حد سواء، لكن من الخطأ البين الحديث عنها وكأنها منتج ديني صرف، ولو قارنا مظاهر التعصب الديني وقبائحه كما وردت في الخاطرة لوجدنا بسهولة أنها ممارسات ينغمس فيها كل المتعصبين من بني البشر: لا فرق بين متدين مسلم أو غير مسلم.. ولا بين مؤمن أو ملحد.. ولا بين عربي وأعجمي.. ولا بين محافظ تقليدي وبين ليبرالي ويساري لا يفهمون من اليسار والحداثة إلا عداوة الدين والمتدينين، ولو أدى بهم ذلك ليكونوا أداة في مشاريع الهيمنة الإمبريالية العالمية والأنظمة الرجعية والديكتاتورية.. حتى يمكن وصف ابتلاء الجميع بالتعصب بعبارة "يا عزيري.. كلهم متعصبون!".
ونحن عندما نقول إن التعصب آفة أصيب بها الجميع؛ أو يتصف بها الإنسان رغماً عن الفكر الذي يعلنه؛ فإنما نستند إلى المعايير والممارسات الخاطئة نفسها التي أدان بها الكاتب التعصب الديني.. ولننقل أولاً هذه المعايير والأهداف التي قال إنها أسوأ غايات المتعصبين دينياً، ثم لنرى أي طائفة من غير المتدينين برئت منها: - فرض نمطهم الفكري الخاص.
- عدم قبول التعايش مع التنوع الثقافي في محيطهم.
- الحقوق والحريات على رأس ضحايا الجماعات الدينية المتطرفة التي تعادي التمدن والانفتاح والسلمية، وتكرس التخلف والانغلاق والعنف.
- الوعي القمعي الإسلامي بشقّيه السنّي والشيعي، ما زال يواصل التشبث بحالة خصومة مع الإبداع والتعبير، كونه لا يمتلك حساً ناضجاً للتعامل مع جماليات الأفكار والفنون.
- المجموعات الدينية الرافضة للتجدد والتحول لا تبدع في شيء قدر استغلالها السيئ والتشويهي للدين، ما يعيق ارتقاء الإنسان وتحديث المجتمعات، كلما استمرت تلك المجموعات بقسر نموذجها المعرفي على من يقعون تحت سيطرتها.
هذه خلاصة القراءة لمظاهر التعصب الديني التي نجد أنها منفعلة ومبتسرة، ولو أردنا أن نعرف حظ الأنظمة غير الدينية وغير المتدينين منها؛ وخاصة تلك المتسترة وأولئك المتسترون بالشعارات الليبرالية، والعلمانية، والتقدمية، والمعادية للدين صراحة؛ فسوف نجد بساطة أنها لا تتميز عن مثيلتها في التعصب الديني في شيء.. مع فارق أخلاقي مهم أن "المتعصبين دينياً" المدانين لا يزايدون – كما يفعل غيرهم كذباً- على مبادىء مثل الديمقراطية، والتمدن، والانفتاح، واحترام الحريات العامة والخاصة، والخضوع للإرادة الشعبية في الانتخابات الحرة النزيهة كما يفعل غيرهم، ثم يكونون هم أول من ينتهكونها عندما يجدون أنها لا تتفق مع مصالحهم! وأليس هتلر العلماني الاشتراكي الوطني كان متعصباً أعمى.. وستالين وخلفاؤه الشيوعيون كانوا رمزاً لتدمير الحياة والإبداع.. وقادة الغرب الرأسمالي هم الذين فرضوا التخلف والفقر على العالم الذي كانوا يستعمرونه ثم سلموه لأنظمة ديكتاتورية وقادة مستبدين من صنائعهم ليواصلوا تدمير مقومات الحياة، ونهب الشعوب بشعارات.. وطنية هذه المرة! التاريخ.. يشهد! ولعله من السهولة بمكان أن نستعرض ممارسات أنظمة بعينها في مثل المجالات المذكورة للمتعصبين دينياً.. فالحقوق والحريات هي أيضاً على رأس ضحايا غير المتدينين في أنظمة قائمة اليوم بل نجدها في مقدمة المهرولين لمكافحة التعصب الديني! ولعل حقيقة موقف أنظمة شيوعية ورأسمالية علمانية شهيرة في ميزان الحقوق والحريات يعطي إجابة نهاية في أنهم (رغم أنهم متعصبون لا دينياً) لم يبرأوا من عداء الحريات وقمعها.. وكانوا أسوأ مثال على فرض نمطهم الفكري الخاص، وعدم قبول التعايش الثقافي في محيطهم.. وكرسوا الانغلاق والتخلف والعنف! كذلك يمكن رصد حالات لا تحصى عن معادين للتدين لكنهم كانوا معادين أيضاً للإبداع والتعبير، حتى رفض ستالين يوماً أن يسمح لشاعر إلا أن يطبع نسختين من ديوانه الغزلي يخصصهما لنفسه ولمحبوبته! وأسوأ من الشيوعيين هذه المنظومة المتلفعة بالحداثة والليبرالية والعولمة في الغرب المهيمن التي لا ترى عيباً في أن تفرض على الشعوب خياراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية وتقرر أن الخروج عليها تمرد يستحق التدخل العسكري إن تيسر الأمر.. فالاقتصاد الحر مفروض بالقوة، والدولة التي تعارض وترفض توضع في دائرة من العقوبات والتضييق المالي.. وأجندة الغرب في الاجتماع والثقافة لا مفر منها وهي مقننة دولياً والخروج عنها يضع الرافض تحت طائلة عقوبات! أليست كل هذه الممارسات تسيء للمظلة الفكرية التي تتستر بها وتشوهها تماماً كما يفعل التعصب الديني بالدين؟ ألم يسيء الغرب الليبرالي لفكرة الديمقراطية، والحريات السياسية وهو يتآمر على المسارات الديمقراطية الصحيحة لأنها خالفت نهجه مثلما حدث في تشيلي في الثمانينيات وفي مصر قبل عام؟ ومن قبل ذلك في أثناء الزمن الاستعماري عمل الغرب على تكريس ديمقراطية مزورة جعلتها سيئة السمعة لمصلحة حكم الفرد والحزب الواحد؟ وألم يسيء العالم الاشتراكي لقيم العدالة الاجتماعية والمساواة التي رفعها حتى كرهتها الشعوب التي تجرعت منها صنوف الويل والقهر حتى فضلوا عليها الرأسمالية بمساوئها؟ قارنوا الآن بين هذا الحماس المتقد لمقاتلة داعش في العراق وسوريا وخاصة بعد إعدام صحفيين غربيين وبين النقد الهامس الخجول لقتل أكثر من ألفين وجرح آلاف من المدنيين الفلسطينيين: أطفالاً ونساء وشيوخاً، وتدمير آلاف من المؤسسات التعليمية والخيرية والصناعية والزراعية وغيرها مما تقوم بها حياة الناس؛ مع سبق الإصرار والترصد أثناء العدوان الصهيوني الأخير على غزة وبغطاء عالمي.. والمفارقة أننا سنجد أن أشد المتحمسين في الحالة الداعشية هم الأشد تعبيراً عن الخرس الشيطاني وعن الوقاحة في الإصرار في تبرير الهمجية الصهيونية اليهودية بأنها دفاع عن النفس! هذا مثال واحد طازج عن همجية غير المتدينين ووعيهم القمعي، وعدائهم للتمدن والسلمية، وارتقاء الإنسان.. ونظن أن مناظر الدمار الشامل في غزة كافية للتدليل عن كيف يعرقل غير المتدينين ارتقاء الإنسان، ولكي نفهم أن التعصب آفة إنسانية لا تستثني أتباع دين ولا عقيدة بشرية ولا منظومة فكرية! التعصب والإبداع.. بقيت كلمة عن خصومة التعصب الديني مع الإبداع والتعبير، وجماليات الأفكار والفنون، فهي نسخة من تهمة شائعة تقول إن التعصب الديني نتيجة لكراهية الفنون والموسيقى والفلسفة أو العكس.. ومن المفارقة أن التعصب العلماني واليساري والقومي والليبرالي ظهر في أنظمة ولدى جماعات وأفراد مغرمين بالموسيقى وفنون الأوبرا.. ولعلنا أشرنا مرة إلى غرام النازيين الألمان، والفاشيست الإيطاليين، والعسكرتاريا اليابانيين بالفنون والفلسفة والآداب حتى في ذروة جنون الحرب العالمية الثانية.. وفي سيرة معظم هؤلاء ستجد إشارات لغرامهم بالفلسفة والأوبرا والفنون الأخرى.. ونازية هتلر نفسه كانت نتيجة فكر فلاسفة ألمان متعصبين، وموسيقيين مشهورين.. وكم كانوا ينتهزون فرصة ساعات من الراحة لا ليقرأوا في الدين أو يصلوا في الكنائس؛ بل ليحضروا عرضاً.. في الأوبرا! وقبل أسابيع قرأت أن الديكتاتور الملحد ستالين كان أيضاً مغرماً بالموسيقار موتسارت ويستمتع في الاستماع إلى إبداعاته.. ومع ذلك فمن يقول إن هؤلاء وأمثالهم كانوا.. غير متعصبين؟ خلاصة الكلام؛ ولكيلا نتوه في الشعارات والمصطلحات.. فلنجعل تعريفات: التعصب، والتطرف، ورفض التعايش الثقافي، والانفتاح، والسلمية، وخصومة الإبداع، وغيرها أمام أنظارنا وعلى الطاولة ونحن نستخدمها لكيلا نظلم أحداً.. والأكثر أهمية لكيلا نوفر – دون قصد- لكبار المجرمين العالميين فرصة للهروب من جرائمهم، وللانقضاض عليها يوم تكون مصالحهم تقتضي منهم أن يجعلوها تحت.. أحذيتهم!