نريد في هذه الحلقة أن نضع قضية (تكفير المسلم) و(التكفيريين) في حجمها الطبيعي من وحي التعامل النبوي معها، ولنرى هل (التكفير) تهمة موجبة لقتل (التكفيريين) دون تمييز، ويستحل بها إزهاق النفس المسلمة، واستباحة الأموال، وتجييش الجيوش، وإثارة الفتنة والحروب؟ من الواضح أن هناك خلطا حادثا متعمدا في أيامنا هذه بين التكفير الفكري الذي لم يقترن به قتال.. وبين اقتران التكفير بحمل السيف وممارسة القتل ضد الخصوم بحجة كفرهم! فالخوارج مثلا كانوا أظهر صورة للفئة الثانية التي مارست التكفير ضد المسلمين مقترنا بالسيف والقتل.. بينما توجد طوائف أخرى تلتزم السلمية (إن جاز التعبير) في تكفيرها للآخر (إن حدث) ولا ترفع معه السيف كما هو مشهور في إطار الجدل الفكري والمذهبي المعروف في تاريخ الفرق الإسلامية قديما وما يزال مستمرا حتى الآن؛ باستثناء فترات الاضطراب السياسي التي اختلط فيها المذهبي بالسلطوي كما حدث من المعتزلة زمن تحالفهم مع السلطة العباسية!
وفي المقابل فقد عرف التاريخ الإسلامي عددا لا يحصى من أعمال العنف والقتال والخروج المسلح ولكن بدون.. تكفير للآخر.. بدءا بحروب الإمام علي مع أصحاب الجمل وصفين .. وخروج الحسين بن علي وحفيده زيد بن علي على يزيد وهشام بن عبد الملك.. ومثلها كثير من الحروب ضد بني أمية والعباسيين ومن جاء بعدهم، وأبرزها ثورة العلماء تحت قيادة عبد الرحمن بن الأشعث ضد عبد الملك بن مروان، ومنها ما حدث في دولة الأئمة الهادويين بين المتنافسين على الإمامة من لدن أحفاد الهادي وحتى ثورة 1948 وما بعدها بقيادة ومشاركة رموز وقادة الأسر الهاشمية وعلماء الهادوية ضد الإمام يحيى وخلفائه!
[6]
ما يناسب المقام هو التذكير بالموقف الإسلامي الدقيق تجاه الحالتين محل الجدل: التكفير بدون قتال، والتكفير مع رفع السيف، الذي نجد حيثياته في نهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم؛ فرغم الموقف النبوي المعروف الحاسم في رفض تكفير المسلم كقوله صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما] ومثله: [ إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه].. إلا أنه لم يترتب على ذلك عقوبة دنيوية على مرتكب التكفير في حق المسلم، اكتفاء بالتحذير من العقوبة الآخروية المفهومة من قوله [ فقد باء بها أحدهما- وإلا رجعت عليه].
وقد فقه الإمام علي بن أبي طالب هذا الحكم عندما واجه نشوء ظاهرة التكفير في زمنه، فمن الثابت أنه لم يكفر الخوارج كما فعلوا معه، ولم يحاربهم في بداية انشقاقهم عليه حين اقتصروا على تكفيره وسائر المسلمين ممن هم ليسوا على قولهم دون قتال؛ رغم إصرارهم على تكفيره، وإثارتهم الشغب في وجهه في المسجد، وعدم قبولهم الحوار معه حتى يقر على نفسه بالكفر ويتوب إلى الله مما ارتكبه (بزعمهم) في حق الله من كفر أو شرك بقبوله التحكيم مع أهل صفين (رغم أنهم هم الذين أجبروه على ذلك)! ويمكن أن نلاحظ ذلك في عدة روايات وردت في المصادر الشيعية المعروفة (وهي حجة على من يؤمن بصحتها) فعندما قال الإمام: [إذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله فإنما هي امرأة كامرأته.. فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه فقال: رويدا.. إنما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب]. وعندما سأله بعض أصحابه: [ يا أمير المؤمنين أكفر أهل الجمل وصفين وأهل النهروان؟ قال: لا، هم إخواننا بغوا علينا، فقاتلناهم حتى يفيئوا إلى أمر الله عز وجل] وفي رواية أخرى أنه قال لمن سأله عن كفر الخوارج: [من الكفر فروا].. وزاد توضيحا لموقفه منهم ومن حقوقهم أن قال عندما وجدهم يردون الصرخة (!!) المشهورة عنهم: (لا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله) وهو يخطب:[ حكم الله نتنظر فيكم.. أما إنّ لكم علينا ثلاثا ما كانت لنا عليكم ثلاث: لا نمنعكم الصلاة في مسجدنا ما كنتم على ديننا، ولا نبدأكم بمحاربة حتى تبدؤونا، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا].
وفقط عندما رفع الخوارج السيف مستحلين قتل المسلمين : رجالا ونساء وأطفالا، وقطع الطرقات، واستباحة الأموال بحجة أنهم كفار.. حينها فقط حاربهم الإمام دون هوادة حتى قضى على شكوتهم.. ومع ذلك أوصى أصحابه بعدم محاربة الخوارج بعد وفاته في حكاية منسوبة إليه: [ لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطاه كمن طلب الباطل فأدركه].
[وفي رأينا أن الوضع واضح في هذا النص الأخير ؛وإن يظل حجة على من يؤمن بصحته في أن تكفير المسلم لا يوجب القتل والمحاربة؛ فأولا/ فلا نظن أن مصطلح (الخوارج) كان متداولا يومها، والشائع في المصادر الشيعية استخدام مصطلح (المارقين) في وصف الخوارج، وثانيا/ فقد تتبعت نصوص الإمام في نهج البلاغة عن الخوارج فلم أجده هو ولا أحد من أصحابه يستخدم كلمة (الخوارج)، وحيثما وردت الكلمة فنجدها في كلام الرواة المتأخرين أو في العناوين.. وأما ثالثا/ ففي نص آخر نجد حكما سلبيا واضحا من الإمام عن الخوارج؛ إذ لما قال له أصحابه بعد أن قتل الخوارج: [يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم (لاحظوا كلمة: القوم وليس الخوارج) قال: كلا والله، إنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلما نجم منهم قرن قُطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلاّبين!].. فإذا أضفنا هذا الحكم عليهم إلى ما هو معروف عن ممارسات معظم فرق الخوارج بعد علي ممن استباح الدماء وفعل الأفاعيل؛ فسوف يكون من الغريب أن ينهي الإمام عن قتالهم كما فعل هو! ويبدو لنا أن النص نسب للإمام لكي يسلب الذين قاتلوا الخوارج من بني أمية وقوادهم مشروعية أو شرف مقاتلتهم بحجة أن دولتهم ظالمة، دون أن ينتبهوا أنهم بذلك يمنحون خوارج كل عصر حجة في تقليد الخوارج بحجة محاربة الأنظمة الظالمة العميلة للصليبيين كما معروف عن تنظيم القاعدة وتوابعه بمن فيهم الدواعش!].
[7]
وفي زمننا هذا يلاحظ وجود الفرق نفسه بين فئات هنا وهناك تكفر المجتمع والمسلمين ممن هم على غير مذهبها العقائدي دون أن ترفع السيف.. وبين ثانية تجمع بين القتال والتكفير.. وأخرى تقاتل دون تكفير! ولكل حالة حكم شرعي خاص بها إن أردنا أن نمنح أفعالنا في مواجهتها مستندا شرعيا صحيحا.. مع ملاحظة أن التحريض الصريح على القتل بحجة الكفر يندرج ضمن حالة التكفير مع القتال!
وخلاصة الكلام؛ فإنه لا توجد حسب علمي عقوبة من أي نوع في أي مذهب لمن يكفّر المسلم؛ فضلا عن استحلال دمه وماله والتحريض ضده بتهمة أنهم (تكفيريون)! وعليه فلا يجوز لا للدولة ولا للجماعات والأفراد محاربة فئة أو أفراد بحجة أنهم (تكفيريون) طالما لم يحملوا السلاح، واقتصر فعلهم على التنظير والجدل؛ ناهيكم عن الذين لا يكفّرون أحدا لكن خصومهم يصرون على دمغهم بالتهمة لتبرير محاربتهم واستحلال قتلهم نهب أموالهم!