على قدر الفضائح اللا أخلاقية التي تكشفت عنها جرائم المخابرات الأمريكية في معتقل غوانتانامو؛ إلا أن طبيعة النظام السياسي وتوازن السلطات الذي يحكمه ويمنع تغول قوة أو سلطة على أخرى منافسة، سوف تسمح بظهور انتقادات حادة للانتهاكات المزرية بحق الحريات وحقوق الإنسان، وقد يحال مسؤولون عديدون للجان تحقيق.. وقد تصدر اعتذارات رسمية، وتعتمد إجراءات جديدة للحد من الانتهاكات.. وكل ذلك هو ما يفرق بين النظام الأمريكي والأنظمة الأخرى في عالم الاستبداد السياسي التي تستنكف الواحدة منها أن تعتذر أو تحاسب مجرماً؛ إلا إذا كان من محاسيب نظام سابق تم الانقلاب عليه، وصار مداناً هو ورموزه وفق أجندة السلطة الجديدة التي ستكون هي بنفسها قد بدأت تتورط في انتهاكات جديدة! وعلى قدر القيمة الأخلاقية هذه الخاصية الأمريكية التي تنتقد خروقات حقوق الإنسان التي ترتكبها أجهزتها الأمنية والاستخباراتية؛ إلا أن الملحوظ أن هذه الاعتذارات والإجراءات التصحيحية تظل شكلاً من أشكال الصراع الخفي بين الحزبين اللذين يحكمان أمريكا ويتداولان السكن في البيت الأبيض، ونوعاً من الخطوات لحلحلة أزمة متفجرة محرجة للخروج من حفرتها، وعلى طريقة ما يوصف بأنه نوع من كلام فك المجالس؛ أي قول أي كلام لإنهاء مشكلة قائمة بصرف النظر عن حقيقة جدوى الكلام! في التاريخ الأمريكي القريب يمكن أن نجد أمثلة على مثل هذه الاعتذارات والإجراءات القوية ضد الانتهاكات التي سرعان ما يتم الانقلاب عليها عندما يجد المسؤولون الأمريكيون ان المصلحة تقتضي ذلك.. وأول مثال على ذلك ما حدث بعد هزيمة الولاياتالمتحدة في حرب فيتنام، التي كانت هزيمة مذلة بمعنى الكلمة، وفرضت على حكام واشنطن تدابير عدة كان من بينها منع إرسال قوات أمريكية إلى الخارج إلا بشرط دقيقة، وكذلك إصدار قانون حرية المعلومات الذي يسمح لأي مواطن الاطلاع على ما يريد، والحصول على نسخة منها وبمجرد –كما قيل- إرسال طلب للجهة المعنية! بالنسبة لقانون حرية المعلومات فقد تحايل عليه اليمين الأمريكي الذي حكم في عهد الرئيسين ريجان وبوش الأب، وابتكروا استثناءات منعت الكشف عن معلومات بحجة المصلحة العليا وحماية مصادر المعلومات (أو عملائهم!).. أما التدخل المسلح في شؤون الآخرين كما حدث في فيتنام فلم يكن ممكناً الصبر طويلاً عليه، وبدءاً من حرب الخليج الثانية عادت حروب الكابوي والغزو والاحتلال! الأمر الذي يسمح بالاستنتاج أن التحفظات على التدخل الخارجي وارد فقط في حالة الهزيمة أما في حالة الانتصارات وتعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي فالإشارة خضراء والمرور مسموح دائماً!
*** انتهاكات المخابرات الأمريكية لحقوق الإنسان في أثناء تنفيذ أنشطتها كانت قد تعرضت لحملات استهجان داخلية شديدة بعد اكشاف أعمالها القذرة في أمريكا اللاتينية، وخاصة في تدبير الاضطرابات السياسية والاقتصادية ضد الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور الليندي وصولاً إلى تدبير انقلاب عسكري دموي ضده قاده كبار الضباط في الجيش (وهي نفس الخطة التي أعيد تنفيذها في مصر ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي).. وكالعاد صاحب انكشاف الفضائح اعتذارات وإجراءات لتعزيز رقابة السلطة التشريعية على أعمال المخابرات... وها هي حليمة الأمريكية تعود لعادتها القديمة ويكتشف العالم جرائم جديدة لها، وكالعادة أيضاً سوف تصدر اعتذارات وإجراءات فقط للملمة الفضيحة أو كلام فك مجالس إلى حين لا يعلمه إلا الله قبل أن تتكرر الفضائح وتتكرر معها الاعتذارات والإجراءات! من المعروف أن الأمريكيين من أصل عربي وشرقي تعرضوا لمعاناة كبيرة بعد أحداث 11 سبتمبر، وصاروا متهمين ومعرضين لأي إجراءات استثنائية ظالمة بمجرد الشك والدسائس الحقيرة لا لشيء إلا أنهم عرب ومسلمون وشرقيون، وصحيح انه حدثت مراجعات واعتذارات في عهد أوباما إلا أنها أيضاً تمت على نفس الطريقة الأمريكية التي ترتكب الجرائم ثم يأتي من يعتذر (وخلاص انسوا الماضي ونحن أبناء الحاضر) مؤكدين أن العرب والمسلمين ليسوا مستهدفين بسبب دينهم وانتمائهم الأصلي! وفي التاريخ الأمريكي المعاصر أنموذج أكثر قسوة وعنصرية في التمييز بين المواطنين الأمريكيين وفقاً لأصولهم العرقية، وهي تلك التي تعرض لها الأمريكيون من أصل ياباني أثناء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد بعد الهجوم الياباني على القاعدة الجوية والبحرية الأمريكية المهمة في "بيرل هاربور" ففي 19 فبراير 1942، أي بعد بضعة أسابيع من قصف "بيرل هاربر" ، وقع الرئيس الأمريكي روزفلت القرار التنفيذي رقم 9066 مخولاً إبعاد "كل/ وأي شخص (من المناطق التي يعتبرها وزير الحربية والقادة العسكريون مناطق عسكرية) تحتاج إلى هذا النوع من الحماية". وخول الرئيس الأمريكي استخدام القوات الفيدرالية في تنفيذ هذا القرار. وفي 21 مارس 1942 أصدر الكونجرس الأمريكي القانون العام رقم 503 ناصاً على تجريم مخالفة الأوامر العسكرية. وبالرغم من أن اليابانيين لم يأتِ ذكرهم لا في القرار التنفيذي ولا في القانون العام، إلا أن هذين المعيارين القانونيين قد أديا إلى احتجاز 120000 أمريكي من أصل ياباني لا ذنب لهم في ما حدث في بيرل هاربور.. فتعرضوا لجملة من الإجراءات اللا إنسانية التي جاوزت الحد في العنصرية والإجرام من قبل سلطات بلد يحملون جنسيتها! ووفقاً لدراسة بعنوان: "جهود التعويضات من المنظور الدولي.. مساهمة التعويضات في تحقيق العدالة غير الكاملة" بقلم بابلو دي جريف مدير البحوث في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، فقد كانت الإجراءات متنوعة وتمت على النحو التالي: "وغني عن البيان أن الاحتجاز، والأمر التنفيذي والقانون العام اللذين قادا إلى الاحتجاز، علاوة على الأحكام القضائية التي سوغته، كانت تتمة لعملية بدأت قبل فترة طويلة. ففي الثلاثينات كانت وزارة العدل قد وضعت قائمة تضم ألفي ياباني مقيم في الولاياتالمتحدة ممن اعتبرتهم خطراً، وضمت تلك القائمة أسماء رجال أعمال وقادة مدنيين ومدرسي لغات ورهباناً بوذيين ومدربي فنون القتال. كما قامت الحكومة الفيدرالية بعدد من الدراسات عن ولاء اليابانيين الأمريكيين، وفي مارس 1941 وضعت وزارتا العدل والحربية خطط طوارئ خاصة لوضع الأجانب من مواطني العدو قيد الحجز العسكري للاعتقال الدائم. وما هي إلا أيام ثلاثة بعد صدور القانون العام رقم 503 حتى بدأ الفريق جون ديويت، رئيس قيادة الدفاع الغربية، إصدار سلسلة من 108 أوامر إبعاد مدنيين، أدت إلى اعتقال أعداد هائلة من المواطنين والأجانب المقيمين. وأعطي للأمريكيين اليابانيين مهلة سبعة أيام للإخلاء وأجبروا على ترك بيوتهم وأعمالهم وتجارتهم، ولم يسمح لهم بأخذ إلا ما استطاعوا حمله من ممتلكات. وبعد ذلك أرسلوا إلى واحد من ستة عشر مركزاً من مراكز التجميع أدارها الجيش، وبعد ذلك إلى واحد من ثلاثة عشر "معسكر" احتجاز دائم أدارتها وكالة مدنية اسمها "هيئة إعادة التوطين في الحرب" التي كانت قد أنشئت أيضاً بقرار تنفيذي. وهناك بقوا لسنوات وراء الأسلاك الشائكة يراقبهم الحرس المسلحون. وقد تفرق شمل بعض الأسر ومن المحتجزين من فقدوا بيوتهم وتجارتهم وأعمالهم وممتلكاتهم. ولم توجه إلى أي من المحتجزين أية تهمة ولم يمنحوا فرصة التعبير عن أنفسهم في جلسة استماع ناهيك عن المحاكمة. لم يرتكب الأمريكيون اليابانيون عملاً من أعمال التجسس أو التخريب أثناء الحرب.
وكالعادة اعترف الرئيس روزفلت بأخطاء ما حدث لمواطنيه من أصل ياباني، قائلاً: "نحن الآن نعلم ما كان ينبغي لنا أن نعرف آنئذٍ – ليس فقط أن الإخلاء كان خاطئاً، بل إن الأمريكيين اليابانيين كانوا ولازالوا أمريكيين مخلصين".. وليس إلا عام 1988 وبعد نضال قانوني طويل استمر منذ الأربعينيات أن صدر قانون الحريات العامة الذي أنشأ مكتبا ًلرفع الضرر، وألزم رئيس الجمهورية بالاعتذار رسمياً، وتعويض كل فرد ما يزال حياً عشرين ألف دولار (بلغ عددهم 82250)! قد يقال إن الأمر ليس فيه عنصرية، والسلطات الامريكية كانت في حالة حرب ومن حقها التحفظ على أمريكيين تعود أصولهم إلى بلد يعاديها ويعلن ضدها الحرب! حجة معقولة يفرغها من صحتها أن الأمريكيين لم يجدوا مناسباً أن يفرضوا تلك الإجراءات الاحترازية ضد الأمريكيين من أصل.. ألماني وإيطالي الذين كانت بلادهما الأصلية تخوض أيضاً حرباً شرسة ضد الولاياتالمتحدة وبالتحالف مع.. اليابانيين!