[1] لأن الحزب الاشتراكي اليمني يدخل بعد انعقاد مجلسه الوطني مرحلة جديدة من تاريخه ؛ليس أقلها شأنا أنه سيصير حزبين إقليمين برأس واحد أو على قاعدة اتحادية من إقليمين؛ فبيانه الأخير يستحق القراءة لمحاولة فهم التناقضات وانعكاسات الحسابات السياسية والجهوية في (بعض) القضايا والقرارات المتخذة التي اعتمدت، وصارت بالتالي موجهات ملزمة للحزب في المرحلة المقبلة، فهي في رأينا جعلت البيان يبدو مضطربا ومزيجا من التناقضات!
[2] اهتم البيان في مواضع عديدة بالتأكيد وبعبارات قوية حاسمة على ضرورة وأهمية الالتزام بمخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وذهب إلى درجة إدانة واستنكار المحاولات المحمومة المستهدفة لما وصفه بالإجماع الوطني على مخرجات الحوار الوطني والالتفاف عليها، ودعا رئيس الجمهورية والقوى السياسية إلى حمايتها من العبث بها أو الالتفاف عليها، والإسراع في صياغة المخرجات في موجهات دستورية وقانونية وسياسية عامة تعكس بدقة تلك المخرجات دون زيادة أو نقصان لتغدو بعد الاستفتاء عليها ملزمة للجميع! كلام جميل وقوي. لكن الملفت للانتباه أنه رغم هذه الحمية الشديدة والغيرة الطيبة بشأن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني؛ وإدانة التآمر عليها من قوى لم يسمها لكن هويتها مفهومة؛ إلا أن البيان كان متناقضا مع نفسه وهو يسهب في المقابل في الدعوة إلى احترام خيارات (!) الشعب في الجنوب وحقه في التنوع(!)، وحقه في تقرير مصيره(!) وتقرير خياراته السياسية المشروعة! كذلك في تأييد اعتصامات الحراك في عدن والمكلا التي تتناقض شعاراتها وممارساتها، ومطالبها في الاستقلال/ الانفصال / استعادة الدولة الجنوبية/ فك الارتباط (وحتى حق تقري المصير) مع صريح مخرجات مؤتمر الحوار الشامل بشان القضية الجنوبية! وبداية فإن لا أحد في اليمن،ومن باب أولى الحزب الاشتراكي ذاته، يجوز له أن يقول إنه يحتكر تحديد وتقرير ما هي خيارات الشعب في الجنوب أو يفسر حصريا معنى حقه في التنوع! لكن هذا التناقض والارتباك يبدو غريبا إن لم نقل بائسا، ودليل تخبط ومحاولة للجمع بين مواقف متنافرة، إرضاء لجهات خارجية يهمها مخرجات الحوار، وداخلية ترفضها.. وفي الحالتين هناك حذر من إغضاب الجميع! وخلاصة الكلام فإن الحماسة الصاخبة لمخرجات الحوار الوطني، والتنديد العنيف بالاستنجاد بالمناطقية والهويات المفككة للنسيج الوطني في البيان لا يتفق مع هذه الحماسة الشديدة لمطالب الحراك الانفصالي واحترام ما يسمى بخيارات الشعب في الجنوب! وحتى ولو كان السبب هو محاولة الجمع بين المتناقضات فالأمر لا يعزز الثقة بالحزب في مرحلته الجديدة لا بالنسبة للحراك الذي يرفض مخرجات الحوار، ولا بالنسبة لمخرجات الحوار الوطني وشركاء الحزب الآخرين التي ترفض تقرير المصير والانفصال وفك الارتباط! وللتنبيه فقط، فإن هذا الموقف المتناقض الغريب يغري باستخدامه من قبل الرافضين لقانون العدالة الانتقالية المقر في مؤتمر الحوار؛ تماهيا مع التأييد المتحمس لمطالب الحراك الانفصالي المخالفة لنفس المخرجات.. وما فيش شيء من المخرجات أفضل من شيء.. فإما واحترمنا الكل أو كل واحد يشوف خراجه! [ الحقيقة أن كلمة: (التنوع) تبدو محشورة في السياق وغير مفهوم المقصود بها، وهل هو تنوع ضمن إطار الجنوب أو التنوع في إطار اليمن الواحد.. فإن كان المقصود: التنوع داخل الجنوب مما هو مؤكد في تاريخه قبل 1967 فهو يتناقض مع رفض الحزب تقسيم الجنوب إلى إقليمين، والإصرار إلى درجة التخوين والإساءة للآخرين على إبقائه موحدا في إقليم واحد رغم أنف التنوع! أما إذا كان المقصود بالتنوع المغايرة بين الجنوب والشمال فنظن أن حقيقة نشأة الحزب ومن قبله الجبهة القومية وحركة القوميين العرب على أساس اليمن الواحد يثبت أن التنوع المفترض بين الجنوب والشمال لم يكن ذا تأثير سلبي، وفي ظله وصل الحزب إلى أقصى درجات قوته، وحكم وأرعب الإقليم كما يتفاخرون اليوم! وواقع الحزب اليوم أنه موحد رغم التنوع، ولم نسمع أن الشماليين والجنوبيين الاشتراكيين يتقاتلون فيما بينهم! مع قناعتنا أن هناك محافظات في الجنوب بينها من التنوعات والاختلافات الاجتماعية، والاقتصادية، والثارات التاريخية أكثر مما يوجد بين بعضها وبعض المناطق الشمالية، والعكس كذلك ملحوظ بالنسبة للشمال.. فكل المناطق الحدودية الشطرية السابقة الجنوبية والشمالية تتطابق تقاليدها، وتاريخها، وعشائرها ومصالحها مع بعضها تطابقا تاما أكثر مما هو حادث مع المناطق الجنوبية أو الشمالية الأخرى].
هذا الانفصام الغريب (ولا نقول المريب) في التعاطي مع قضايا مهمة يشمل أيضا قرار تقسيم الحزب الاشتراكي على قاعدة اتحادية بإقليمين الذي تم اعتماده ويفهم أنه بصدد التطبيق الفوري.. فتحديد تقسيم الحزب إلى إقليمين يتناقض،إن كنت قد فهمت الحماسة الشديدة لمخرجات مؤتمر الحوار، مع ما صار معمولا به وهو اعتماد الأقاليم الستة قاعدة للدولة الاتحادية الجديدة التي بشر البيان بها بحماسة أيضا، وبمعنى آخر فالمنطق كان يوجب تقسيم الحزب على قاعدة اتحادية بستة أقاليم، فإذا نجح الحزب ومن يؤيده مستقبلا من خلال الأغلبية في تغيير النظام الاتحادي إلى إقليمين كما قالوا، فعندها يمكن إعادة تقسيم الحزب على قاعدة الإقليمين! وسنذهب بعيدا لنقول: وماذا سيكون الحال إن حدث انفصال لا قدر الله.. ألن يجد الحزب نفسه مضطرا لإعادة التقسيم على أساس التطور الجديد على قاعدة الدولتين ستكونان غالبا في حالة عداء.. وربما حذف كلمة اليمن من الاسم في دولة الجنوب غير اليمني وبقائه في دولة الشمال اليمني؟ هذا طبعا إذا استبعدنا بعض الرؤى التي تقول إن فكرة الإقليمين في الدولة والحزب هي إعادة انتاج جديدة لمشروع علي سالم البيض عام 1993! ومن ثم فتقسيم الحزب إن لم يكن بدعة فهي تمهيد واستشراف لانفصال قادم!
[3] البيان أيضا جعل من الموقف من قانون العدالة الانتقالية مسألة مهمة وميزانا لاحترام مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، لكن يلاحظ أنه استنكر الدعوة لاحتساب زمن تطبيق العدالة بدءا من سبتمبر 1962ونوفمبر 1967 بدعوى أنه مخالف لما تم الاتفاق عليه في المؤتمر، ولشبهة أن المقصود بذلك تصفية حسابات مع الثورة اليمنية وتبرئة العهود السابقة التي قامت ضدها الثورة! هنا نقول يجب أن يكون الموقف من قانون العدالة الانتقالية مبدئيا كما هو مطلوب تجاه دعوات الحراك الانفصالي المعارضة لمخرجات مؤتمر الحوار.. وإلا فما الفرق بين الالتفاف على القانون والالتفاف على الوحدة؟ على أننا نستغرب الخلط في مسألة المساواة في تطبيق العدالة بين المتضررين في كل العهود الجمهورية، فأولا أيما إنسان ظلم باسم الثورة وثبت ذلك قضائيا فالواجب إنصافه ولو كان من أتباع الأنظمة السابقة فهم يمنيون قبل كل شيء، والثورات لم تقم لإيقاع الظلم بالأبرياء، ولا عيب في الاعتراف بوقوع أخطاء أثناء الجنون الثوري! بل إن إنصاف المظلومين بسبب الثورة هو انتصار لقيمها وليس إدانة لها إلا في المنطق الأعوج! وأما ثانيا فليس كل المظلومين المطلوب إنصافهم هم من أتباع الأنظمة السابقة على الثورات، والأخوة في الحزب أكثر من يعلم ماذا ألحقت الصراعات على السلطة داخل أنظمة الثورة المتعاقبة بعدد لا يحصى من المواطنين الأبرياء، والمعارضين بل والثوار المناضلين من الظلم، والإقصاء، والتشريد، والقتل.. والآن يريدون استثناءهم من العدالة رغم أنهم جنوبيون لكيلا يدان نظامهم السابق في الجنوب بحجة الغيرة على الثورة وعدم إدانتها؟
[4] تجنب البيان أن يحدد بالاسم الجهات التي تقود مشاريع مضرة ومخالفة للإجماع الوطني المتمثلة بمخرجات الحوار.. وفي ظل حقائق الوضع السياسي والأمني والسيطرة العسكرية للحوثيين وحلفائهم في النظام السابق، وسيطرتهم على معظم المحافظات ومحاصرة البقية، فإن عدم تحديد أسماء الجهات المعرقلة لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وتلك التي انغمست في الحروب وأعمال العنف الدموية، تضعف كثيرا من قيمة البيان وتنديداته الشرسة بحق المستهدفين للإجماع الوطني. وإذا كان يمكن بسهولة ملاحظة أن أطرافا يمنية (النظام السابق+ القاعدة) متهمة بكل تلك السيئات الواردة في البيان ومدانة تقليديا في الخطاب الإعلامي الاشتراكي، قد استفادت من هذه الدعممة فإن السبب كما يبدو يعود إلى حرص البيان على عدم إدانة الطرف الحوثي (الذي يمثل الضلع الثالث في فوضى العنف في البلاد) صراحة حفاظا على العلاقات الودية التاريخية.. ومن أجل عين تكرم.. مدينة!
[5] سنتناول ما جاء عن اللقاء المشترك في البيان تصريحات د. ياسين نعمان غدا إن شاء الله، ونمر الآن سريعا على بعض المسائل الواردة في البيان ووجدنا أنها بحاجة لتعليق:
- مقتضيات العلاقات العامة وآداب السلوك مع الملوك، جعلت البيان يعفي رئاسة الجمهورية والرئيس من دعوة الحزب من تحمل مسؤولية إثبات جدارتها في القيام بجملة من المهام الوطنية الثقيلة بحكم أن رئيس الجمهورية هو مالك الشرعية اليوم الذي يحظى بدعم إقليمي ودولي نادر. وبدلا من ذلك كعّف البيان الحكومة الحالية للقيام بمهام المرحلة على ضعفها وهوانها على الناس، والحزب أول من يعرف حقيقة قدرتها على تنفيذ المهام التي خصص لها البند 15 الذي يحتاج تنفيذه إلى نظام في استقرار سويسرا، وجبروت ستالين، وأموال الكويت، وجيوش الناتو، وإعلام غوبلز وأحمد سعيد، وقدرات السي أي إيه والمباحث الفيدرالية الأمريكية! - من التواضع غير المحمود التشكي في البيان من ثانوية دور الحزب الاشتراكي في المجال الثقافي والإعلامي وتغييبه لمصلحة (القوى التقليدية الطفيلية النافذة من قوى الفساد والاستبداد) ، فلا أحد منع أحدا من العمل ونشر مشروعه الفكري، والوجود اليساري البشري موجود وأكثر منه لن يكون إلا نوعا من البطرة والبواقة.. ويبقى فقط هو إحسان اختيار الموقف الوطني والقومي والإسلامي السليم، والتعبير عن حاجات الشعب وقيمه ومبادئه الأصيلة وليس تلك الطارئة على مجتمعه، مع عدم إهمال التواضع أثناء الحديث عن النفس وتمجيدها ونفخها حتى تنفجر، والإساءة لشركاء الوطن ووصفهم بصفات متخلفة من ماضي الحزب الواحد الذي لا يعلو على صوته صوت!