سحب الرئيس عبدربه منصور استقالته ليعاود الظهور مجددا كرئيس شرعي للدولة اليمنية وننتهي من مهزلة مفاوضات موفنبيك التي انشغلت بمعالجة الغياب الدستوري والسياسي بسبب استقالة الرئيس وحكومته. المفاوضات التي كانت تتعامل مع الاعلان غير الدستوري للحوثي، وهو اعلان يقوض النظام السياسي والدستوري للجمهورية اليمنية ويجعل منها في خبر كان. هذه المرة أفق جديد قد ينفتح في هروب الرئيس من العاصمة المحاصرة بما يمثله من رمزية للدولة ليتحرك نحو عدن بعيداً عن مراكز القوى وسيطرة الميلشيا، لكن احتمالية انسداد هذا الافق واردة بقوة لو تغافلنا عن حقيقة المشكلة وهي ليست في كيفية تقاسم السلطة بل في كيفية اعادة حضور الدولة في العاصمة صنعاء بعد سيطرة ميلشيا اغلقت كل منافذ السياسة وجرفت كل امكانيات العمل السياسي والمدني ، لتوهمها إنها قد تسيطر على اليمن وتحكمه بقوة السلاح فقط.
الحوثي يتحرك بحرية وفاعلية اكثر كلما اتسعت مساحة الفراغ السياسي والدستوري حتى تمدد بشكل يفوق حجمه عشرات المرات. اليوم الحركة تنتقل لمدينة أخرى خارج العاصمة صنعاء التي انسد فيها أفق العمل السياسي بمحاصرة منزل الرئيس ورئيس حكومته، وخضع الجميع لمنطق الحوار تحت سطوة السلاح في جولة تفاوض يديرها المبعوث الأممي الذي يناقض مهمته كلياً وهو يفاوض ضمن الاعلان غير الدستوري الذي أعلنه الحوثي وشكل بموجبه لجنة ثورية لها سلطة فوق مؤسسات الدولة اليمنية، وهذا يتناقض كلياً مع النظام السياسي للجمهورية اليمنية والمبادرة الخليجية التي جاء بن عمر للعمل في إطارها.
المهمة المطلوبة في مواجهة الحوثي هي ملء الفراغ وهذا يعني المبادرة بالتحرك، وليس فقط الانحسار في خانة رد الفعل حسب الفعل الذي اختاره الحوثي مثل فرض وجوده بصنعاء وبعدها رد الفعل توقيع السلم والشراكة، وبعدها إعلان غير دستوري يعقبه مفاوضات حول حصص التقاسم في مجلس وطني.
يرتبك الحوثي مع كل فعل لا يسيطر عليه، وهذا يبرر الحالة الهستيرية بسبب خروج رئيس ضعيف وفاشل لكنه يمتلك شرعيه تفتقدها جماعة مسلحة لا تعرف شيئاً من مفردات السياسة ومفاهيمها، ليس هذا فقط بل إن الرئيس تحرك نحو مساحة جغرافية وسياسية لا يسيطر عليها الحوثي مما قد يتيح له فرصه الحركة والفعل وليس الاكتفاء بمجرد رد الفعل.
في كل مرة يواجه الحوثي مأزقاً سياسياً يتجه نحو التقدم للأمام عسكرياً، الحوثي لو توقف عن التقدم ينتحر ولأنه لا يجيد سوى لغة السلاح، فهذا التقدم يأخذ صيغة عسكرية. لذا في الغالب سوف يتجه الحوثي جنوباً نحو تعز لإسقاطها عسكريا تمهيداً للدخول جنوباً ومحاصرة الرئيس مجدداً. الحوثي كان يحضّر لمعركته في مأرب لكن مأرب ستطول معركتها قليلاً، لذا فهو سوف يتجه نحو تعز لكي يحرز نصر عسكري سريع يثبت فيها اسطورته العسكرية لدى جنوده ومريديه خاصة إن الحوثي في أمس الحاجة لهذا البعد النفسي بعد حالة الارتباك التي اصابته بعد فرار الرئيس.
تعز قد تكون أحد الأمرين إما حالة متوسطة بين البيضاء التي أسقطها الحوثيون عسكرياً لكن لم يستطيعوا السيطرة عليها ومدينتي إب والحديدة حيث نجح الحوثي في اسقاطهما عسكرياً والسيطرة عليهما لكن تواجههم حركة شعبية سلمية، أو قد تكون حالة شديدة الشبه بالبيضاء بحكم العصبية المناطقية القوية والاحتقان السياسي الشديد داخل المدينة المحورية. في المقابل يمتلك الرئيس عبدربه بعض أوراق الضغط المهمة ، فخزينة الدولة فارغة والكويت هي من دفعت مرتبات الموظفين قبل شهرين إكراماً للرئيس هادي وليس دعماً للحوثي وبعد ضغط وإلحاح شديدين. بالطبع لن يعالج هذه الخزينة المعتلة مفاهيم الحوثي الساذجة عن الاقتصاد ودعاويه حول محاربة الفساد في وقت تتغيب فيه كل آليات الدولة من محاسبة ومراقبة، مما قد يضاعف من الفساد عدة مرات، وفي سرقتهم لأرباح مصنع عمران للإسمنت وعبثهم بشركة صافر للبترول دليلاً قاطعاً إن جماعة الحوثي لن تنجح في الخروج من المأزق الاقتصادي.
سوف تتجه المعونات الخليجية للرئيس هادي في عدن، مما قد يؤلب سكان صنعاء على الحوثي بسبب تدهور الوضع اقتصادياً، كذلك سوف تفقد العاصمة صنعاء جزءاً كبيراً من قدرتها على الضغط مادياً لكي تسيطر على المحافظات، خاصة تلك المحافظات التي تعمل شريحة كبيرة من سكانها بالدولة مثل تعز.
من الناحية العسكرية، وضع المعسكرات الجنوبية لايزال معقولاً نسبياً، ووجود هادي لو تحرك في هذا الاطار جيداً، سوف يحميها من هجمات القاعدة ومحاولات الحوثي للسيطرة عليها، خاصة إن فيها قاعدة العند الجوية. بالطبع وضع معسكرات حضرموت صعب لأنها تقع ضمن سيطرة المركز بصنعاء، لكنها تظل معزولة عن مجتمع معادي بشدة للميلشيا، وبعيدة جغرافياً عن صنعاء. هذا يضيف لأوراق الضغط التي يمتلكها الرئيس هادي ويعيد بعض التوازن العسكري ضد الحوثي المهيمن عسكرياً في أقصى الشمال.
تظل العملية السياسية مطلوبة واعادة السياسة لمجاريها أمر ضروي سوف يخفف من حدة المعارك المسلحة التي سوف تنشب في البلاد في اكثر من اتجاه، كما إن السياسة احد مظاهر حضور الدولة التي تغيبت في صنعاء. هنا يأتي دور الأحزاب والقوى السياسية في دعم الرئيس سياسياً والحضور بعدن والمشاركة بحوار هدفه استعادة العاصمة صنعاء واخراجها من سيطرة الميلشيا، هذا أمر ممكن لأن عبدربه منصور لايزال الرئيس الشرعي داخلياً ودولياً، والأرجح سوف تنقل كثيراً من الدول سفاراتها بمقرات مؤقتة لعدن.
خيارات اليمن محدودة فقيرة وسقف نجاحاتها منخفض لكنها تستحق المحاولة لأن الخيار الوحيد الذي كان مطروح لأيام قليلة مضت، هو بقاء العاصمة رهينة في يد الميلشيا تتآكل معها الدولة والسلم الاجتماعي وتدخل الدولة اليمنية في حالة موت وتموت معها كل فرص العيش بسلم وأمان بدون حروب أهلية .
أما وقد نجح الرئيس هادي بالفرار لممارسة مهامه كرئيس دولة فهناك فرصة جديدة وضئيلة تستحق المحاولة لأنها تظل في النهاية محاولة لو نجحت في حدها الأدنى، والحد الأدنى استعادة سيطرة الدولة على العاصمة صنعاء، افضل بكثير من الخيار الوحيد المطروح في المقابل وهو بقاء الحوثي متحكماً بمركز الدولة اليمنية.
تظل قراءة الواقع بمخاطره مطلوبة، فالرئيس هادي الآن في عدن وسط جو مختنق بالغضب والاحتقان والمزاج الانفصالي في أعلى درجاته منذ حرب 1994. هذه البيئة الغاضبة المحيطة به جنوباً مع سيطرة الميلشيا الطائفية شمالاً قد يؤدي لتفجر الموقف وتقسيم الدولة، وتظل دراسة مخاطر الوضع السياسي والاجتماعي ضرورية لكبحها والتقليل من احتمالية وقوعها.
الفرصة لا يتيحها الرئيس هادي بشخصه وأدائه المحبط والضعيف، وهو يستحق المحاسبة والمحاكمة مع كل دوائره المقربة بما فيها مستشاريه جراء تهاونهم في التعامل مع الوضع الخطير الذي دخلته العاصمة شهر اغسطس الماضي، ونتج عنه سقوطها بيد ميلشيا هزت أركان الدولة اليمنية واضعفت الهوية الوطنية حتى ازدهرت كل اشكال الانقسام الاجتماعي واحييت كل الثارات التاريخية.
الفرصة يتيحها هادي برمزيته للدولة والشرعية وهذا ما تفتقده اليمن خاصة بعد فشل الأحزاب المتخاذلة في التعامل مع فرص سابقة وثبت فيها إن كل فراغ يستثمره الحوثي، والآن نحن أمام رمزية مؤسسة الرئاسة التي تسد فراغاً مهماً في الدولة اليمنية وكذلك قد تشكل حائط صد لبعض أجزاء اليمن، وقد ينجح في تضييق الخناق على الأجزاء الواقعة تحت سيطرة الميلشيا. هذا أمر يستحق المحاولة وفرصة لو احسن استثمارها مع ادراك لمخاطرها قد تتيح مجالاً للأمل في وقت لاحق.
الحوثي سوف يهرب من مأزقه السياسي في صنعاء بالتحرك عسكرياً وسوف تتسع مساحة الاشتباكات العسكرية، لكن ضمان عدم دخول البلد بحرب أهلية شاملة مرهون بمدى حكمة الأطراف السياسية في تحجيم مساحات الصراع والتحرك سياسياً وليس فقط عسكرياً، والالتفاف حول كل شرعية متبقية للدولة اليمنية مرهون أيضاً بالتحرك الشعبي للشارع كضمير حي يمثل الوطنية اليمنية المهدورة والمهانة على يد النخبة المتآمرة حيناً والمتخاذلة أحياناً، مرهون بالعمل الإعلامي داخلياً وخارجياً لكسب التعاطف من قبل اكبر قدر من اليمنيين وكذلك دوائر صنع القرار خارج اليمن، مرهون أيضاً بالعمل دبلوماسياً في الخارج حتى ينجح الضغط على الوكيل الإقليمي إيران في كبح جماح عميله الحوثي، مرهون أخيراً بالوعي دوماً بحجم المخاطر التي تحيط باليمن مجتمعاً ودولة لتفاديها، لعلنا نخرج من هذه الأزمة الطاحنة بأقل الأضرار الممكنة وخاصة إن آثار ما جرى منذ 21 سبتمبر سوف تترك جراحاً عميقة سياسياً واجتماعيا لن تداوى بسهولة حتى لو نجحنا في إزالة الوضع السياسي الذي فرض يوم 21 سبتمبر.