شعبان عبد الرحيم، شعبولا، يغني للوحدة اليمنية. كان هذا خبراً رئيساً في الصفحة الأخيرة من السياسية، الرسمية. ذات مرّة، قبل أربع سنوات، فاجأ شعبولا الجمهور المصري بهذه الأغنية: حسني مبارك راجل ذوق، خلّى المترو تحت وفوق. وهييي. كانت مهرجانات الانتخابات الرئاسية المصرية في ذروتها. سحِب الشريط من الأسواق في لمح البصر، لكن الأغنية عاشت في رؤوس كثيرة. يعزى سحب الأغنية، بحسب كثيرين، إلى مانشيت كبير على الصفحة الأولى لأسبوعية "الدستور" المصرية. كان المانشيت يقارن بين الرئيسين مبارك وعبد الناصر. وبحسب مانشيت الصحيفة، فإنّ: فنّان عبد الناصر هو العندليب، عبد الحليم، أما فنّان مبارك فهو شعبولا. وكما أنّ صحفي عبد الناصر هو الأستاذ، والمقصود: هيكل، فإن صحفي مبارك هو عبد الله كمال، تقول الصحيفة. ويكفي، بالنسبة للمثقفين المصريين، أن تشير إلى اسم هذا الصحفي المعروف، ذي النفوذ، لكي تشعر فجأة بأنك أصبحت كاتباً ناشئاً، أو قارئاً من الدرجة العاشرة. طبيعي، إذن، أن يظهر شعبولا على قناة إل بي سي في برنامج " بدون رقابة" منذ أقل من شهر، ليؤكّد بكل حماس أنه كان أول فنّان مصري غنى " للحمار". شعبولا لم يكتم عتبه على زميله سعد الصغيّر الذي سرق، بحسب شعبولا، فكرة الأغنية وحتى كلماتها. أعني أغنية: بحبّك يا حمار، ولعلمك يا حمار، دا نا بزعل أوي لما حد يقول لك يا حمار. بالنسبة لشعبولا، أيضاً، فإن الشاعرة السكندرية المعروفة، إيمان بكري، لم تسبقه إلى قصيدة "بحبك يا حمار". شعبولا لم يحصر نفسه في الحمار، فهو يعتقد أنه صديقٌ حميم لكل الأشياء قليلةِ القيمة في العالم. كما أن شعبولا يبطن إحساساً قويّاً بشدة ذكائه، وهكذا فهو يغني بحسب الطلب في كل اتجاه، ولا يكترث ما إذا كان الموضوع ذا قيمة أو مجرّد "عجل وحمار". على الشاشة الصغيرة قال ذات يوم: أنا شعاري "كبر دماغك كبّرها وادّيها للي يقدّرها". لقد غنّى، من قبل، لهجاء العجول الدنمركيّة رداً على إساءة صحيفة يلاندس بوست للسيد النبي. لأجل اليمن، سيفعل شعبولا التالي: سيحذف كلمة " يا حمار" ويضع مكانها: الوحدة، نحواً من هذا هو ما سيحدث بالفعل: بحب الوحدة، بكره الانفصال، وهيي! لعمري، إنها إهانة شديدة الضراوة للتاريخ اليمني.
عندما غادر مبارك شرم الشيخ في رحلة طبية إلى جامعة هايدلبيرغ، غرب ألمانيا، التقى أنس الفقي، وزير الإعلام، بالفنانة المرموقة " شيرين". قال لها: إنت صوت مصر. بعد اللقاء بدت شيرين متحمّسة بشكل هستيري لأداء أغنية تمجّد شفاء السيد الرئيس. إنها فرصة تاريخية بالنسبة لشيرين، هكذا تعتقد، كما أن الأمر كان من دواعي سرور مبارك، فليس أروع من أن يسافر الكائن من صورةٍ في الحائط ليذوب في اللحن، على الشفاه، في أقدس ساعات المساء، وأكثر لحظات النهار بهاءً. الأغنية ستكسر موانع الأيديولوجيا والسياسة، ستجبر أشد خصوم الرئيس على ترديد اسمه بلا وعي، هكذا فكّر أنس الفقي.
لم يخطر ببال مستشاري مُبارك دعوة شعبولا، أو سعد الصغيّر، أو حتى كاريكا شنكوتي للتصدي لهذه المهمّة الترويجية الوطنية! في لحظة فاصلة من حياة الزعيم. فثمّة يقين قديم لدى النخب في مصر على اختلاف توجهاتها الذهنية والأخلاقية: حافظ على نقاء المعنى الكبير من تعكير الرجل الصغير. إنه البلد العظيم الذي يمتلك ثلث آثار العالم، يدرك جيّداً كيف يحتفظ بطهارة تاريخه الكبير، بقداسة منجزه المتفوّق. إن مصر تبدو، أحياناً، كما لو أنها على أهبة الاستعداد لخوض صراع مع الكبار لأجل استعادة تمثّال فرعوني، أو مزهرية هيروغليفية! وشعبولا مجرّد فنان شعبوي صغير، يغني للميكروباصات، الأتوبيسات، بائعات الجبنة البلدية بطريقة فجّة أحادية البُعد، تدعو للرثاء البليغ! دعونا نتذّكر محمد منير في" أنا قلبي مساكن شعبية" (اعتذر لمحبي منير عن هذه المقارنة القاسية). وهكذا فإن على شعبولا أن يبقى بعيداً جدّاً، لما وراء المدى الممكن، عن أن يقترب من المضامين المصرية الحضارية عالية الفيوض والتكثيف. غنّت نانسي عجرم للمنتخب، فصنعت جزءاً من انتصاراته القاريّة كما اعترف الكابتن شحاته. لم يجرؤ شعبولا على التصدّي لهذه المهمّة، إنها أخطر من تفكهه وركاكته. وبرغم ذلك يُراد له أن يتغنّى بحدث كبير على مقاس: الوحدة اليمنيّة!
شعبولا، أو سعد الصغيّر، مواطنان مصريان من حقهما أن يفخرا بالهويّة المصريّة لكنهما ليس الشخصين المناسبين لتدوين هذه الهويّة، لإعادة الاعتبار للكبرياء القومية. ثمّة عبارة قديمة، في النقد الكلاسيكي، تقول: لا يمكننا أن نغفل النظر إلى شكل/ قيمة الإناء بينما نحنُ نشرب فيه العسل الصافي. لستُ هُنا بصدد إهانة كائن بشري، بيولوجي أو إنساني، اسمُه شعبان عبد الرحيم. فأنا أكنّ له قدراً من الاحترام الإنساني العالي، وأزعمُ أنه يملك الحق الكافي، نزولاً عند كل القوانين العادلة، لأن يغني بما شاء بالطريقة التي يريد. كما أن لي الحق الخالص في أن أرفض استخدامه في تخليد مرموزاتي الكبيرة، كما فعل مواطنوه في مصر، أو تلك التي لا زلت أعتقد أنها منجز كبير بحاجة إلى صيانة وتخليد. على سبيل المثال: أنا أرفض بكل شراسة أن تُغنى الوحدة اليمنية، وبحبّك يا حمار، وبتوع العجول .. على نفس المقام! مقترح: أوافق على أغنية للوحدة اليمنية تغنيها الفنانة المرموقة شيرين. لقد سبق أن أسرجت قلوب ملايين المصريين في " ما شربتش من نيلها، طب جربت تغني لها .. مصر".
في الآن ذاته لا مانع لدي، عند الدرجة نفسها، من أن يغني شعبولا للسيد الرئيس صالح، إذا كان ولا بد من شعبولا! إنها لن تكون المرة الأولى التي سيتسبب فيها مستشارو الرئيس في تصغيره على هذا النحو. لطالما فعلوا، وسيختفون تاركينه خلفهم يجر عواقب عقولهم الصغيرة، مفرداً في الفراغ مثل طرفة بن العبد. أتصوّر أن الوحدة، بالنسبة لليمنيين، لا تقل قيمة عن حياة حسني مبارك بالنسبة للمصريين. أثق في الشق الأول، ولستُ أكيداً من الطرف الثاني من هذه العبارة غير العميقة. لا أود أن أتورّط في الحكي أكثر مما يجب. غنّت السيدة الكبيرة فيروز لبغداد، للبنان/ لبيروت، لاسكندريّة، لدمشق، أما الوحدة اليمنية فقد أريد لها أن يرقّعها صوت شعبان عبد الرحيم، شعبولا القُلّه! هل فيكم من سيحتمل هذه الذكرى الفظيعة، فيما سيأتي من الزمن؟ يا لها من عروس وحيدة، تلك الوحدة التي تركتها الأزمنة الخشنة لأخينا شعبان!