في اليمن دائماً ما نختلف على تسمية الأشياء، وتوصيف المشكلات، وبالتالي نختلف على الحلول. يجري ذلك على أشياء كثيرة من بينها الفساد الذي وصفه رئيس الوزراء السابق باجمال ب "زيت التنمية". غير أني هنا سأستعير النكتة السياسية في توصيف الفساد، وبإمكان القارئ بعد ذلك أن يتخيل الحل. تبدأ النكتة من الصبي المراهق الذي يسمع دائماً عن الفساد السياسي دون أن يعرف معناه فيسأل والده الذي حاول أن يبسط له الأمر كالتالي: أنا أمثل الرأسمالية لأني من يملك المال، وأمك هي الحكومة لأنها من تنظم شؤون البيت، وأنت الشعب الذي يعيش تحت مظلتنا، أما أخوك الصغير فهو يرمز إلى المستقبل، بينما تمثل الخادمة في المنزل القوى العاملة، وطلب من ابنه التفكير في هذه التشبيهات حتى يقترب من فهم السياسة وتعريف الفساد.. الابن في تلك الليلة لم يستطع النوم لأنه قلق ومشغول في فهم تلك التشبيهات، فسمع أخاه الصغير يبكي ويحتاج إلى من ينظفه، ويهتم به، فذهب إلى الأم التي وجدها غارقة في النوم، وبحث عن والده فوجده في غرفة الخادمة، فشعر بالضياع والارتباك، وفي صباح اليوم التالي سأله والده هل عرفت معنى الفساد السياسي؟ فرد عليه: نعم، الفساد السياسي هو حين تعبث الرأسمالية بالقوى الكادحة وتكون الحكومة نائمة في سبات عميق فيصبح الشعب تائها قلقاً ويغرق المستقبل في القذارة..! الفساد "وسخ" في كل الأحوال، ولدينا من الفاسدين أنفسهم من يلعنونه صبح مساء أكثر من غيرهم، وبقدر ما يزيد حديث الحكومة عن الفساد تزيد الأوضاع سوءاً حتى وصلنا إلى المرتبة 140 في مؤشر الفساد لدى منظمة الشفافية العالمية. لذلك أود أن أعتذر مسبقاً للقارئ الذي أصبحت الكتابة أو الحديث عن الفساد يستفزه ويغثيه، فهو يسمع ويقرأ عن الفساد ومحاربته ثم لا يرى شيئاً، حتى أن مثل هذا النوع من الكتابات لا يزيد شيئاً عن كونه يعيد كتابة المكتوب ويؤلف المؤلف أصلاً، وبعضها ينطبق عليه وصف عبد الله باذيب: "كلام مدعس". شخصياً يستفزني ما هو أكثر من ذلك، مثل هذا الخبر الذي قرأناه هذا الشهر عن وفد رفيع عريض من هيئة مكافحة الفساد والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ذاهب في رحلة عمل إلى ألمانيا للاطلاع على تجربة الألمان في الكشف عن الفساد ومحاربته..! وكأن الفساد في البلاد يحتاج هو الآخر إلى خبرات أجنبية تكشف لنا ما نراه ونلمسه في كل وزارة وهيئة.. وهناك بحسب التقارير الرسمية ما يزيد عن 8753 قضية فساد مسجلة في هيئة المكافحة وفي الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ووزارة الداخلية ونيابة الأموال العامة وبعض الجهات الحكومية. والرقم على ضخامته لا يكشف طبعاً قضايا الفساد الثقيلة التي يصعب تسجيلها لأنها بكل بساطة قضايا فساد ثقيلة جداً..! بإمكان القارئ أن يتوقف عن القراءة هنا ويلتفت إلى أقرب شخص إليه ويسأله عن رأيه في هيئة مكافحة الفساد، وأظن أن الإجابات لن تختلف، فأغلبية اليمنيين لا يعولون آمالاً كبيرة على هيئة المكافحة هذه، وهم لكثرة ما يسمعون من الهيئة وغيرها لم يعودوا يؤمنوا بشيء من ما يقال، وهذه مشكلة مدمرة أسوأ من الفساد نفسه، لأنها تسرق من الناس الأمل والثقة في الغد الأجمل، وتشل قدرتهم على أي عمل بإمكانه تجاوز هذه الحياة البائسة والوضع الجيف.. فالفساد لا يتوقف عند مظاهر السرقة والاحتيال والتزوير بل يتسرب إلى نفوس الناس وعقولهم ويتحول إلى ما يشبه الثقافة العامة التي يصعب معها حث الناس على التغيير والتضحية في سبيل قيم الفضيلة التي ينشدها كل آدمي سوي. الناس تبحث عن من يعيد لها الأمل وتنتظر اليوم الذي تحاكم فيه رؤوس الفساد الكبيرة التي يعرفهم القاصي والداني وليسوا بخافين عن رئيس الدولة الذي قرأ "تقرير هلال باصرة"، لكن لا شيء يبعث على التفاؤل حين يتحول الأمر في أعلى جهاز في الدولة لمكافحة الفساد وفق الخبر السابق إلى مجرد مؤتمرات وندوات، وتذاكر وبدل سفر، وخبير يأتي وآخر يذهب، وكلام مكرر وسخيف عن برنامج "الأخ الرئيس" وأشياء أخرى تبدو مستفزة ولا علاقة لها بمعاناة الرجل العادي حين يعجز عن إكمال معاملة أو الحصول على خدمة حكومية حتى يخرج لهم ابن هادي وأبو حسين وأخو قاسم السهلة..! أو يخطف له أجنبياً ويفاوض به الدولة. أغلب الظن أن الآنسي وغيره من موظفي الحكومة الرسميين يعرفون أنهم مجرد موظفين لا يستطيعون فعل شيء، ويعترفون كما في تصريحاتهم أنهم غير قادرين على محاسبة هذا الوزير الفاسد أو ذاك المسؤول، وهم في الوقت نفسه لا يملكون أنفسهم ومن الصعب أن نتوقع منهم أن يبدوا محترمين بما فيه الكفاية ليقدموا استقالاتهم ويعتذروا من الذين عولوا عليهم شيئاً.. هم الآن يأذوننا أكثر، ويستفزوننا حد الصراخ، ويطولون عمر الفساد الذي يبدو لا نهاية له في ظل هذه الوجوه. هم مجرد أداة جديدة من أدوات الديكور واستجداء الدول المانحة.. كما يمكن القول أنهم فساد مضاعف، لأنهم بدلاً من المحاربة أو المواجهة، يشرعون للفساد بالسكوت عنه، وهم بالتأكيد يتبادلون النكت، ويخزنون، ويستقبلون بالأحضان الأشخاص أنفسهم الذين يقترفون الفساد في كل يوم. ترى هل يعي الآنسي رئيس الهيئة -الذي يبدو نزيهاً- ذلك أم لا؟ أشك في ذلك.. ودليلي أن رجلاً مثل ياسين عبده سعيد وهو عضو الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد لا يستطيع أن يحارب شيئاً لا يؤمن بوجوده أصلاً كما كان يصرح أثناء حملته الدعائية كمرشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. هيئة الفساد ليست كل شيء طبعاً، والكل يعرف من أين يأتي الفساد الأسود، ومن تحت أية عباءة يخرج حمران العيون، ويكفي الوضع سوءاً أن أغلب موظفي الجهاز الحكومي في الدولة يمارسون الفساد بصورة أو بأخرى، والجميع يعرف ذلك، بل ويشرع له أو يتعاطف معه إذ كيف لموظف بسيط راتبه 20 ألف ريال أن يعيش دون أن يرتشي؟ هذا سؤال منطقي، لكن المؤسف أن هذا السؤال المتكرر في كل مناسبة يذهب في كل مرة إلى تشريع الفساد، بدلاً من أن يذهب في إلى من يجب أن تطرح عليه كل أسئلة الوطن المعتل..