بعد قيام ثورة 26 سبتمبر لعام1962م في شمال الوطن اليمني، وفي حمأة الحماس الثوري، وبتأثير شعارات تلك المرحلة عن الحرية والعدل والمساواة، ساد الاعتقاد بأن اليمن قد خلت من كل أشكال العبودية وأن جميع اليمنيين وبلا استثناء قد أصبحوا أحررا كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وكان من أهم الشعارات أو المقولات التي كثيرا ما كنا نسمعها ونرددها هو شعار "كلنا أحرار وكلنا سادة". بيد أن خلف تلك الشعارات كان ثمة واقع آخر يشير إلى أن ليس كل اليمنيين قد أصبحوا أحرارا ومواطنين متساويين في الحقوق والواجبات. كما أن ثمة فئات أخرى من فئات المجتمع اليمني لم تكن قد ذاقت بعد طعم الحرية ولم تزل مكبلة بأغلال العبودية المتعددة الأشكال، وقد توصل كاتب هذه السطور إلى هذه الحقيقة المرة بعد مرور عقدين من الزمان على قيام الثورة والجمهورية من خلال واقعتين ساقته إليهما ألمصادفه وكان ذلك في أحد مواسم الحج عام 1982م، ففي تلك السنة ذهبت ضمن لجنة إلى حرض لصرف جوازات سفر خاصة بالحجاج، وأثناء عمل اللجنة جاءت امرأة تطلب الحصول على جواز سفر، وعند سؤال أحد الزملاء لها عن من سيرافقها في سفرها لأداء مناسك الحج هل هو زوجها أم ابنها ؟ أجابت بكل برود عبدي هذا، وأشارت بيدها إلى أحد الرجال الواقفين بجانبها. وعند سؤال الرجل عن صحة ما قالته المرأة هز رأسه بالإيجاب موافقاً ومؤكداً عبوديته لها .
وعلى غرابة ما سمعت في تلك اللحظة إلا أنني حاولت أن أقنع نفسي بالقول إن هذه حاله شاذة وربما تكون الحالة الوحيدة المتبقية من عهود الإمامه وأن من الخطأ الحديث عنها كظاهرة تستحق الاهتمام.
غير أن واقعة أخرى أكدت أن تلك الحالة لم تكن الوحيدة في حرض وأن ثمة عبيدا وجواري مازالوا موجودين على الأقل في هذه المنطقة وعلى وجه التحديد في بعض مديريات محافظتي حجة والحديدة.
أما الواقعة الأخرى التي أسوقها الآن بجانب الواقعة الأولى كشهادة بمناسبة الحديث هذه الأيام عن العبودية في اليمن، فقد ساقتني إليها المصادفة أيضاً عندما رافقت أحد الزملاء من أعضاء اللجنة في زيارته لمنزل كريمته زوجة أحد مشايخ حرض، ففي فناء منزل الشيخ شاهدت وجود أطفال من ذوي البشرة السوداء يلهون ويلعبون في فناء ذلك المنزل، فقلت لزميلي: هل هؤلاء أبناء كريمتك؟ مستغرباً من لون بشرتهم التي لا تتناسب مع بياض ووسامة زميلي! فأجاب ضاحكاً: اتق الله هؤلاء أبناء وبنات الجارية.
لم أنس تلك الواقعتين بعد عودتي من حرض إلى صنعاء، وبقيت أياما أتحدث عنهما لأصدقائي بشيء من الغرابة، مؤكداً لهم أن العبودية مازالت موجودة في اليمن. بل وبلغ اهتمامي بهذا الشأن إلى أن قمت بكتابة مقال حماسي لصحيفة الثورة تضمن بعض ما رأيت وسمعت عن بؤس أحوال الناس في "حرض" "وميدي" وكان عنوان المقال "حرض مرتع السادة وجحيم العبيد"، وكنت أعني بالسادة في ذلك المقال جميع موظفي الحكومة الذين يتصرفون في شئون تلك المناطق ويتعاملون مع سكانها كأسياد وليس مجرد موظفين، وكان المقصود بالعبيد في ذلك المقال جميع سكان حرض وما جاورها من المناطق التهامية، مشيراً في سياق المقال إلى تلك الواقعتين. وبالطبع لم ينشر المقال في صحيفة الثورة، ولا في غيرها. وعند سؤال الأستاذ المرحوم محمد الزرقة رئيس تحرير صحيفة الثورة آنذاك أجاب بأن مضمون المقال يتعارض مع سياسة الصحيفة، وأن الحديث عن السادة والعبيد هو في حد ذاته تشكيك بمصداقية الثورة والجمهورية التي كان من أول أهدافها التحرر من الظلم والاستبداد وتحقيق العدل والمساواة بين اليمنيين، مضيفاً أن العبودية محرمة أصلاً بقرار جمهوري صدر في الأيام الأولى لقيام الثورة والجمهورية، وذكر لي رقم القرار وتاريخ صدوره.
ويعيد التاريخ نفسه فنقرأ من جديد، وبعد مرور ما يزيد على أربعين عاماً من تحريم العبودية عن استمرار ظاهرة العبودية بمعناها الجاهلي وعلى نحو ما عرفتها المجتمعات القديمة في القرون الغابرة .
هذا ما أكدته التحقيقات والمقابلات التي نشرتها مشكورة صحيفة المصدر في الأسابيع الماضية صحيح أن العبودية قد أصبحت من الناحية النظرية غير مشروعة ومحرمه في العهد الجمهوري، وأنه لا يوجد في دستور الجمهورية اليمنية ولا في قوانينها ما يجيز الاستعباد أو يشرعن وجوده، وصحيح أن ما تبقى من العبيد والجواري هي مجرد حالات قليلة، قياساً بما كان عليه الأمر في العهود الماضية، إلا أن ثمة أشكالاً أخرى من العبودية مازالت قائمة، وما زالت أحوال الملايين من سكان المناطق اليمنية، وبالذات سكان تهامة أدنى إلى العبودية وأقل من الحرية والعدل والمساواة، فمن بين سكان تهامة توجد فئة الأخدام، وهي فئة كبيرة العدد تضم مئات الآلاف من المهمشين والمنبوذين إن لم يكونوا عبيداً في عرف المجتمع ووعي الأخدام بأنفسهم إلا أن تعامل مؤسسات الدولة والمجتمع معهم مازالت أقرب إلى تعامل الأسياد مع العبيد، بل يقال إن بقايا العبيد في تهامة يعتبرون أنفسهم أسمى من الاخدام حسب ماذكرته الصحيفة.
ومن أشكال العبودية الأخرى في تهامة تأتي عبودية الفقر، ذلك أن نسبة الفقراء في تهامة بصورة عامة هي الأعلى مقارنه مع نسبة الفقراء في المناطق اليمنية الأخرى، وهذا ماتؤكده مظاهر البؤس الشديد الذي يعاني منه أبناء تهامة على نحو استثنائي.
ومع أن معظم خيرات اليمن ممثلة بالثروة الحيوانية والسمكية والمحصولات الزراعية إنما تأتي إلى بقية المناطق اليمنية من وديان تهامة وشواطئ بحرها إلا أن مستوى مشاركة أبناء تهامة في إدارة الشأن العام على المستوى المحلي أو على مستوى مؤسسات السلطة المركزية هي الأدنى مقارنة بمشاركة بقيه أبناء المناطق اليمنية.
لكل هذه الأسباب يمكن القول أن مضمون العبودية في اليمن مازال أوسع بكثير من تلك الحالات الفردية التي ذكرتها صحيفة المصدر، وبالتالي فYن من الوهم الاعتقاد أن جميع اليمنيين قد أصبحوا أحررا ومواطنين متساويين في الحقوق والواجبات. المصدر أونلاين