هناك موجة شك ديني تجتاح شريحة الشباب المثقف في اليمن وغيرها من البلاد الإسلامية، بعضها يصل إلى مستوى الإلحاد الصريح وإنكار وجود الإله، في حين يكتفي بعضهم بإنكار الأديان على طريقة الربوبيين المعروفة. فيما يتجه آخرون لتجريب ديانات أخرى كالبهائية والمسيحية. ومهما تكن الدوافع الطبيعية والمصطنعة التي تقف وراء هذه الموجة، فإن من حق الشباب أن يتساءلوا ويشكوا، ومن واجب الفقهاء أن يجيبوا عن أسئلتهم بطريقة ملزمة، وكلمة ملزمة هنا تأتي نيابة عن كلمة "مقنعة" لأن الاقناع مسألة فوق طاقة البشر، فلا أنبياء الأديان يقدرون عليها ولا أنبياء الإلحاد. أما الإلزام فهو مستوى من البرهنة يجعل المسألة محل تقدير وتفهم، فلا يستطيع المنكر إنكارها إلا بقدر من الحرج.
* * أنتم سلفيون كثيرا في إلحادكم، ونحن أكثر تقدمية في إيماننا. ومن المعلوم أن قضايا الدين والقضايا ذات الطابع الإنساني عموما، لا يمكن إثباتها أو نفيها بالضربة القاضية، والإيمان بها أو بنقيضها لا يكون إلا بالنقاط. ونعني بالضربة القاضية برهانا من البراهين الثلاثة الملزمة: برهان الحس، وبرهان العقل، وبرهان التجربة. وهذا الكلام ينطبق أيضا على بعض العقائد الإلحادية مثل عقيدة النشوء والارتقاء مثلا. فنظرية النشوء والارتقاء التي تعد أهم مستندات الإلحاد المعاصر في تفسير الحياة والوجود، لم تثبت بأي من البراهين الثلاثة السابقة، لا بدليل الحس ولا بدليل العقل ولا بدليل التجربة، وإلى أن يقدم العلم في شأنها برهانا قاطعا ستظل في خانة النظريات العلمية. والنظرية هي مجرد مقولة تسد ثغرة علمية، لا يستطيع العلم نفسه سدها. ومن بين نظريات عديدة في تفسير الحالة الواحدة، يختار العلماء المقولة التي تثير أقل قدر من الاعتراضات وتجيب عن أكبر قدر من أسئلة الحالة، كما يقول ستيفن هوكنج نفسه. وبحسب هذا التعريف للنظرية تقف مقولة الإله جنبا إلى جنب مع المقولات الفيزيائية الأخرى في تفسير خلق الكون والحياة. إلا أن مقولة الإله تتفوق بعد ذلك على مثيلاتها بفارق كبير من النقاط. وكل ما يقدمه المؤمنون في هذا السياق هو تعزيز لهذه النقاط ليس إلا، ومهما يكن اطمئنان المرء لإيمانه إلا أنه لا يستطيع الزعم بأن الله قد تجلى له بواحد من البراهين القطعية الثلاثة، إذ ليس للإله أن يتجلى للحواس، ولا أن يكون مقولة رياضية في العقل كمقولة واحد زائد واحد يساوي اثنان، ولا أن يثبت وجوده بالتجربة. ولو حدث ذلك لما كان للأديان معنى ولا لاختبار المكلفين معنى، لأن العقل قد أصبح مقهورا ملزماً بالإيمان. ومما يعزز فكرة الإله الخالق أن النظرية المناهضة لها في تفسير الخلق تبدو ضعيفة جداً حتى الآن، أعني نظرية الاحتمالات التي لجأ إليها الملحدون. وهي نظرية علمية معتبرة بالطبع، إلا أنها في مسألة تفسير الخلق تبدو في غاية الضعف، ولم نجد حتى الآن اتفاقا بين العلماء المختصين على أن الحياة يمكنها أن تنشأ - وفقا لقوانين الاحتمال - في هذا العمر المحدود للغلاف الجوي والكرة الأرضية. بل إن بعض العلماء الغربيين يذهب أكثر من ذلك إلى القول بأن قانون الاحتمال نفسه يبطل نظرية تخلق الكون عن طريق المصادفات. ذلك لأن الاحتمال يدخل في باب الاستحالة إذا تجاوز الرقم 10 وعلى يمينه خمسين صفراَ، في حين أن احتمال كتابة قصيدة واحدة مكونة من 400 حرف لشكسبير من قبل ستة قرود على الآلة الطابعة تحتاج إلى 10 وعلى يمينها 650 صفرا، فما بالك بخلق العالم؟
* * القرآن يستعمل ما نسبته 35 في المئة من جذور المفردات العربية قياسا إلى معجم الصحاح، في حين أن أي كاتب في العالم لا يمكنه أن يتجاوز 5 في المئة من جذور لغته. ومن بين ردود عديدة على أصدقائي الملحدين أمازحهم بالقول: أنتم سلفيون كثيرا في إلحادكم ونحن أكثر تقدمية في إيماننا، وذلك لأن المقولات التي تستندون إليها جميعها قديمة، وأحدث مستنداتكم تعود إلى ما قبل العام 1950. أنتم تعتاشون على تراث نيوتن وداروين وفرويد، وهولاء جميعاً أصبحوا من الماضي بالنسبة للوسط العلمي. فالتطورات العلمية التي حدثت منذ ظهور النسبية وحتى الآن تصب في صالح المنظور الإيماني. لقد سقط التفسير المادي للحياة حين ثبت بالدليل العلمي إن الإنسان كائن مزدوج من مادة وعقل، وأن العقل أو الذهن أو الروح لا يمكن تفسيرها باعتبارها نشاطا ماديا، كما ذكر روبرت أجروس وجورج ستانسيو في كتابهما المهم "العلم في منظوره الجديد". ذلك بخصوص مشكلة الإله، أما بخصوص مشكلة الدين (الإسلام تحديدا) فإنه على الرغم من القصور الكبير في جانب الردود العلمية والفلسفية على الأسئلة الشكية، إلا أن الكثير من الظواهر في القرآن الكريم على وجه التحديد ما زالت قادرة على إحراج المنكرين لعجزهم عن تفسيرها. وقد ضربنا في مناسبات سابقة الكثير من الأمثلة والنماذج على كون القرآن ظاهرة غير عادية، سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون. نماذج لا يجدي معها القول إن محمدا العبقري هو مؤلف الكتاب، إذ أن بعض هذه الظواهر يفوق قدرات الفرد الواحد مهما كان عبقريا. من ذلك ما ذكره اللواء أحمد عبد الوهاب في كتابه "إعجاز النظم في القرآن" من أن القرآن يستعمل ما نسبته 35 في المئة من جذور المفردات العربية قياسا إلى معجم الصحاح، في حين أن أي كاتب في العالم لا يمكنه أن يتجاوز 5 في المئة من جذور لغته.