يشكل التطرف والغلو الديني مشكلة تواجه كل الحكومات، وخاصة في الدول التي تنعدم فيها السيطرة الكاملة على سيادة الأرض والبشر، والتطرف وجد في كل الأديان، اليهودية والمسيحية والإسلام، لكن الدول الأخرى التي تدين باليهودية والمسيحية سبق لها أن تخلصت بشكل شبه كامل من مسألة التطرف والغلو، بعد أن تمكنت من فصل الدين عن الدولة، أصبحت دولة المواطنة متساوية، وأصبح الدين متعلقاً بالفرد ذاته، وتعاني الدول النامية التي تعتنق شعوبها الإسلام، ومنها اليمن انتشار الأمية وقلة الثقافة والاطلاع على الأديان الأخرى، ومن الفقر وضعف التطور الاقتصادي .. كل هذه المسائل جعلت من بعض المشائخ الذين يعتنقون الفكر المتطرف والدخيل على اليمن، والذي بدأ نشره في أواخر سبعينيات القرن الماضي في اليمن، كضرورة لمواجهة المد الشوعي، وكان في البداية عبر تأسيس معهد دماج في صعدة "دار الحديث" على يد الشيخ مقبل الوادعي، الذي كان سابقاً يعتنق المذهب الزيدي، ثم بدل مذهبه في فترة اغترابه في المملكة العربية السعودية، وبعد حادثة جهيمان العتيبي "حادثة احتلال الحرم المكي" عاد إلى اليمن ليؤسس مركز "دار الحديث" . بعد بدء انتشار المعاهد على نمط ذلك المعهد في شمال اليمن، وبعد الوحدة تم استقطاب أبناء الجنوب، الذين كان معظمهم إن لم يكن جميعهم يطبقون المذهب الشافعي مع انتشار بعض الطرق الصوفية . وخلال تلك الحقبة وما تلاها تخرج مئات الآلاف من معتنقي الفكر الوهابي النجدي، ومن خلاله تم تفريخ خلابا القاعدة وأنصار الشريعة مؤخراً، كون هذا الفكر يشكل بؤرة للتطرف أو بيئة صالحة لنشر التطرف وإنتاج المجاهدين والانتحاريين، الغريب الآن ما زال البعض من المثقفين والمحللين يتكلمون على أن اليمن زيدي وشافعي فقط، اعتماداً على مرحلة ما قبل عام 1979م وما قبل الوحدة، وتجاهلوا أن المذهب الشافعي تم محوه نهائياً وحل محله السلفية، اعتماداً على الفكر الوهابي، ولا وجود اليوم سوى للزيدية، التي أنقذت نفسها قبل الاضمحلال منذ عقد تقريباً، أي منذ بداية عام 2004م وكذلك السلفية الوهابية .. أما الشافعية فهي اليوم ذكرى فقط، وفي حال ما فكرت الدولة بالتخلص من التطرف والإرهاب، فإنها ستضطر إلى إعادة انتشار المذهب الشافعي في جميع المناطق التي كان يسود فيها هذا المذهب سابقاً، وهي معروفة، وهذا هو أساس الحل، حيث أن المذهب الشافعي والزيدي قد مر عليهما في هذه المساحة الجغرافية "اليمن" أكثر من ألف عام، بينما المد السلفي الوهابي المدعوم بالمال والإغراءات والأغراض السياسية التي ترسم للتبعية في المستقبل لما يمر سوى أقل من 40 عاماً وتعتبر طارئة إذا ما أجادت وصدقت وأحسنت الدولة التصرف مع هذا الإشكال، كون التطرف والغلو أساساً منبعه ومصدره فكري، ويجب التركيز أولاً على محاربة الأفكار بالأفكار، وهذا هو الأساس للحل . والمشهور في الإسلام أنها توجد 4 مدارس فقهية مشهورة ابتداءً، ثم تلاها المذهب الزيدي المنسوب لزيد بن علي الممتد نسبه إلى علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه" الذي تم تأسيس الدولة الهادوية بصعدة واليمن على أساسه وبقيت المذاهب الأربعة السابقة منتشرة في عموم العالم الإسلامي، والشافعي هو الأكثر انتشاراً في العالم الإسلامي .. أما المذهب الحنبلي الذي ينتمي إليه الوهابيون كما يدعون يكاد ينحصر في المملكة السعودية، وقلة من دول الخليج الأخرى، حيث إن عمان تعتنق المذهب الأباضي، أي أن المذهب الحنبلي وأخيراً الوهابي، اللذين يصنفان كمذهب واحد لم يبدأ التوسع في نشرهما إلا بعد الطفرة البترولية، وهو مرتبط بالولاء السياسي لا غير، ويكاد يكون هو المذهب الوحيد الذي ينتهج المقتنعون به منهج التطرف والغلو . كيفية استعادة الاعتدال والوسطية: لا بد أن تسعى الدولة بالإشراف والدعم لنشر ثقافة الاعتدال والرقابة الحقيقية على المناهج والتقليل من توسع المدراس الدينية العشوائية التي تنشر الفكر المتطرف، ولا بد من إعادة الفنون والرياضة والموسيقى والنشاطات في كافة المدارس التعليمية العامة . ويوجد في اليمن "75" ألف مسجد أو أكثر، معظمها يقوم فيها بعض الشيوخ بتدريس نفس تلك الأفكار المتطرفة، وبإعادة الإشراف من قبل الأوقاف على بناء المساجد وتنظيم التعليم والخطاب فيها من قبل موظفين يتبعون وزارة الأوقاف ويلتزمون بسياسة الدولة، فإن المشكلة ستظل قائمة وقد ربما يحصل بعض الانحسار، إلا إنه مؤقتاً ثم سرعان ما يعود التمدد . والملاحظ أن شيوخ التطرف، كبارهم وصغارهم يركزون على صغار السن، أي من هم دون سن البلوغ، ويفتقرون إلى العم والثقافة، فيتم تشكيلهم كما يشكل التمثال من الطين على هوى النحات أي "الشيوخ" . نحن بحاجة الآن إلى حملة شاملة تقودها الدولة ، وكافة مؤسساتها بتعاضد الوزارات الأساسية المعنية، وهي التربية والتعليم والأوقاف والشباب والرياضة والثقافة الداخلية والإعلام، كل بحسب تخصصه وفي مجاله، وإن انتشار الوعاظ من قبل الدولة في حملات إلى المساجد، وليس الاقتصار على الصحف والقنوات المرئية والمسموعة، وإنما بانتشار الوعاظ في المساجد كما يفعل أهل السنة والجماعة، والتي لا تظن أن هؤلاء الذين يقومون بنشاطات فير عادية، يؤدون نفس الدور الذي تؤديه جامعة الإيمان والمعاهد العلمية تحت يافطة "أهل السنة والجماعة" ولو كانوا فعلاً يقومون بهذا العمل لما رأينا أي أعمال إرهابية أو متطرفين، خاصة وأنه لا تمر ليلة في أي مسجد أو قرية إلا وفيها محاضرة وملصقاتهم تملأ جدران الشوارع والمحلات .. فهل تستطيع الدولة أن تعمل مثل أنشطتهم؟ فلديها الإمكانية والقدرة، وإلا فلتعمل على الرقابة لمثل لتك النشاطات؟! الخلاصة: في وضع شائك ومعقد كاليمن، يبدو أنه من الأفضل، بل الصوب أن يكون التعليم الديني حكر على الدولة على غرار الأزهر في مصر، وجامعة الإمام محمد بن سعود في السعودية . الأمر الذي يتطلب إغلاق المعاهد والجامعات الدينية التي تم إنشائها في السابق، ومنها جامعة الإيمان والمراكز السلفية والأربطة الصوفية والكليات الحزبية، مثل كلية العلوم الشرعية بالحديدة، وكلية القرآن العليا بصنعاء وكلية الدراسات الإسلامية وكلية الأشاعر وكلية مجد الدين المؤيدي بصعدة وجامعة القرآن بصنعاء . حيث إنه لا يستقيم وجود تعليم ديني طائفي مع الدولة المدنية، حيث أن هذا التعدد التعليمي الديني يخرج أجيال من المتشددين ويعزز المناطقية والطائفية، في الوقت الذي يشهد التعليم الحكومي تدهوراً يزداد عددفي تلك المراكز الدينية المتعددة والمختلفة! .