تنذر الأجواء السياسية التي يعيشها اليمن اليوم بخلافات عميقة في أوساط القوى السياسية التي تتصدر مشهد إعادة رسم مستقبل البلاد، بخاصة بعد التطورات العاصفة التي ترجمتها سيطرة جماعة الحوثي ومليشياتها على العاصمة صنعاء في الحادي والعشرين من سبتمبر/ أيلول من العام الماضي . قبل أكثر من أسبوعين أجبر الحوثيون الرئيس عبدربه منصور هادي على تقديم استقالته في خطوة أرادوا من خلالها خلط أوراق اللعبة السياسية في البلاد والعودة إلى مرحلة ما قبل انهيار العملية السياسية التي حملتها تداعيات ما قبل دخول الحوثيين صنعاء وما بعده، بخاصة في ظل تفرد المتمردين بصناعة القرار السياسي والأمني في العاصمة وجزء كبير من مناطق البلاد، وبالذات تلك الواقعة في نطاق الشمال . استقالة الرئيس هادي وقبله استقالة الحكومة دفعت الحوثيين إلى التسريع بإيجاد حل يجنبهم مسؤولية إيصال البلاد إلى مرحلة الفراغ السياسي، حيث حاولوا إقناع رئيس الوزراء خالد محفوظ بحاح بالعدول عن استقالته، حتى تكتسب سلوكياتهم شرعية، وأن يكونوا قادرين على معالجة أزمة استقالة هادي بمزيد من الوقت، إلا أن بحاح رفض التجاوب مع مطالب الحوثيين، لأن ذلك يمنحهم صكاً شرعياً للحكم من دون تحمل مسؤولية، مع أنهم أقدموا على تنفيذ انقلاب ضد الجميع بمن فيهم الحكومة عندما حاصروا مقرها ومنعوا أعضاءها من ممارسة مهامهم . حاول الحوثيون إعادة ترتيب الأوضاع التي تسببوا في خلقها، من خلال التشاور مع بعض الأطراف السياسية للوصول إلى تفاهمات من شأنها إعادة صياغة العلاقات بينها وبين هذه الأطراف، إلا أن رغباتهم اصطدمت برفض عدد من الأحزاب، بخاصة التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، الذي انسحب من محادثات استمرت لعدة أيام، بعد أن أكد التنظيم أن الحوثيين ليسوا جادين في الوصول إلى حل . راهن الحوثيون على رخاوة الوضع القائم لإقناع القوى السياسية بالوصول إلى حل يضفي شرعية على المساعي التي يبذلونها لتجنب الفراغ السياسي الذي حدث بعد الاستقالة المفاجئة للرئيس هادي، والذي رفض مطالب بعض القوى السياسية بالعدول عن استقالته وإصراره على حل يتم عبر مجلس النواب، وهي الخطوة التي لاقت استحساناً لدى حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يسعى هو الآخر لاستغلال لجوء هادي إلى مجلس النواب من أجل العودة إلى الواجهة من جديد، بخاصة وأن المؤتمر يتحصل على أغلبية في المجلس . ويبدو أن حسابات الأطراف السياسية تتقاطع في الوقت الحاضر بين مؤيد لحل يصدر عن مجلس النواب، ويدعم هذا الحل، بل ويتحمس من أجل الأخذ به، حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي يتزعمه الرئيس السابق علي عبدالله صالح، فيما يتجنب الحوثيون اللجوء إلى هذا الخيار لأنهم يفتقدون أي حضور فيه، بخاصة في هذه المرحلة، ويتجاوب مع الحوثيين بعض الأحزاب السياسية التي ترى أن هذا الخيار هو بمثابة تسليم للسلطة إلى صالح الذي أطاحته ثورة شعبية العام 2011 . ويبدو أن الحوثيين عرفوا كيف يحيدون بعض الأحزاب في صراعهم مع صالح لقيادة المرحلة المقبلة، فعلى الرغم من التحالف غير العلني بين الطرفين خلال الأحداث الأخيرة التي أدت إلى إسقاط العاصمة ومحيطها في أيدي الحوثيين، إلا أن حسابات المؤتمر الشعبي، وصالح تحديداً تختلف عن تلك التي يخطط لها الحوثيون، حيث يسعى صالح الى استغلال الارتباك الذي وقع فيه الحوثيون في الأسابيع الأخيرة، وبالذات بعد إسقاطهم للحكومة والرئاسة ورموزها، أي دار الرئاسة والقصر الجمهوري وانفرادهم بالحكم بشكل مطلق، واستيلائهم على وسائل الإعلام الرسمية التي لم تعد تعبر عن المؤسسات الشرعية في البلاد، وذلك من أجل العودة إلى الحكم من جديد . على ماذا يراهن الحوثيون؟ وهل لديهم قدرة على مواصلة تنفيذ المشروع الانقلابي الذي بدأوا به قبل أشهر وترجموه بشكل فعلي قبل أسبوعين بالاستيلاء على مؤسسات الرئاسة والحكومة وإشرافهم على المؤسسات الإعلامية والمالية وحصارهم للوزراء وفرض إقامة جبرية على العديد منهم؟ يحاول الحوثيون البحث عن شرعية لتغطية الأعمال التي قاموا بها، ولهذا الغرض حشدوا الآلاف من أنصارهم في مؤتمر أسموه "الملتقى الوطني الموسع" للبحث في الخيارات الممكنة لإعادة رسم التحالفات، بخاصة بعدما نجحوا في استمالة العديد من أنصار وموالي الرئيس السابق علي عبدالله صالح، عسكريين ومشائخ قبائل، كما أن الترويج المجاني الذي قام ويقوم به أنصار صالح لعبدالملك الحوثي من أنه "ثوري من الدرجة الأولى"، كما وصفه بذلك الناطق الرسمي باسم حزب صالح عبده الجندي، منح الحوثيين ورقة إضافية للمناورة باسم الملتقى الوطني ودفعهم لاتخاذ مواقف متشددة من بقية الأحزاب الرافضة للخطوات التي يقومون بها . شجع الملتقى الوطني الحوثيين على المضي قدماً في إعادة ترتيب البيت الداخلي خلال الفترة القليلة المقبلة، حيث أكد الحوثيون أنهم وبتفويض شعبي قادمون على إعادة رسم المشهد السياسي بحل لا يكون فيه الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي ضمنه، وبدأوا عملية البحث عن شخصية توافقية تكون على رأس مجلس رئاسي يفكر الحوثيون بتشكيله، حيث تردد اسم الرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد كأحد الخيارات المطروحة التي يقبل بها الحوثيون لحل للأزمة . مع ذلك فإن الحوثيين لا يزالون غير قادرين على بلورة حل للأزمة القائمة، إذ إنهم دخلوا في احتكاك سياسي مع الأطراف السياسية كافة، باستثناء الحزب الاشتراكي اليمني، الذي يقود مساعي للتقريب بين الحوثيين وبقية الأطراف بمساعدة حثيثة من المبعوث الأممي إلى اليمن جمال بنعمر، بغية الوصول إلى حل يجنب البلاد كارثة حرب أهلية شاملة، إذ إنه يدرك أن فشل الحل السياسي لن يقود إلا إلى كوارث ستسحب نفسها على العملية السياسية بأكملها . ولكن هل يمكن أن ينجح الحوثيون في فرض رؤاهم على بقية القوى السياسية، والمضي بمشروع التسوية الذي يتبنوه؟ من المؤكد أن الحوثيين يسابقون الزمن للخروج من الأزمة التي وجدوا أنفسهم في قلبها، بخاصة وأنهم لم يكونوا يتوقعون أن يقدم الرئيس هادي على تقديم استقالته، فقد كانوا يعتقدون أن بإمكانهم البقاء في دائرة الحكم ولكن بطريقة غير مباشرة، إلا أن استقالة هادي أربكتهم، فسارعوا إلى البحث عن حل، سواء عن طريق الأحزاب أو عن طريق الملتقى الوطني الجامع الذي رتبوا من أجل عقده في ظرف زمني قصير . ما الحل إذاً؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه الجميع في اليمن اليوم، خاصة في ظل غياب مشروع سياسي يجمع فرقاء الحياة السياسية في بلد تمزقه الخلافات والأزمات والمخاوف من المجهول . يرى الكثير من المراقبين أن فرض حل أحادي الجانب لن يكون قادراً على إخراج البلاد من محنته، فالحل في اليمن لن ينجح إلا بقدرة الأطراف السياسية على إيجاد حل يكون محل توافق الجميع، خاصة في ظل التجاذبات الكبيرة بين مشاريع الأحزاب والقوى السياسية، والتي من شأنها زيادة الاحتقان السياسي والاجتماعي وذهاب البلد إلى مزيد من التشرذم والضياع، كما أن إصرار طرف على الاستئثار بالحل لن يزيد الأزمة إلا اشتعالاً ويجعل البلد كلها عرضة للانقسام والتشرذم في ظل تمترس كل طرف وراء مشروعه واعتقاده أنه السبيل الوحيد للحل، سواء كانوا الحوثيين أو صالح، الذي يريد العودة إلى الواجهة من جديد أو الأحزاب الأخرى التي تبحث عن دور لها في المشهد كله.