بوسع السياسيين اليمنيين، ومن والاهم من كتّاب وصحفيين وأكاديميين وقانونيين و"شخصيات وطنية"(!) متابعة المسيرة الحوارية المظفرة والثرثرة باسم مخرجات الحوار ومسودة الدستور والهيئة التنفيذية لمتابعة التنفيذ... الخ. لكن الأمور الآن تبدو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى في مرحلة "صناعة الإجماع" التي كان اسمها "المرحلة الانتقالية" قبل أن يقرر الجميع حرفها عن مهامها باتجاه تفكيك الدولة والتشبث بالسلطة عبر سلسلة تمديدات. لا مناص من إعادة مخرجات الحوار إلى طاولة الحوار مجدداً بدلاً من الانزلاق إلى محاولات لفرض الأمر الواقع من قبل الرئيس هادي وحلفائه من جهة، والحوثيين وحلفائهم (المبرقعين) من جهة أخرى. سياسة الأمر الواقع التي تورط فيها الجميع خلال السنوات ال3 الماضية، قبل أن يرتكب الحوثيون حماقتهم الكبرى 21 سبتمبر الماضي باجتياح العاصمة، أدت إلى نشوء وضعية حرجة هي بمثابة "موديل" لما ينتظر اليمنيين في حال استمرت هذه الأطراف في ألاعيبها السياسية. هذه الوضعية تتمثل في سيطرة جماعة مسلحة على عاصمة الدولة، ووجود رئيس الدولة في مدينة أخرى. الجماعة تستقوي بالمحيط القبلي لفرض هيمنتها وإنفاذ كلمتها. والرئيس يستقوي بالمكان (عدن ومحيطها) وبمسودة دستور لدولة افتراضية ليس مرجحاً أن تعرض على استفتاء شعبي في المدى القصير. لكن هذا الرئيس يتصرف منذ وقت طويل باعتباره رئيساً لهذه الدولة الافتراضية لا للجمهورية اليمنية، الدولة العضو في الأمم المتحدة! *** الرئيس التوافقي في عدن بينما عاصمة الجمهورية (وعاصمة الدولة الافتراضية المنصوص عليها في المسودة) تخضع لسيطرة جماعة سياسية مسلحة تقول إنها المعبرة عن إرادة "الشعب اليمني". الرئيس التوافقي الذي انتزع قبل عام موافقة من 500 مشارك ومشاركة في مؤتمر الحوار، على "فدرلة" الدولة، وتمديداً لفترة رئاسته، يستعجل إقرار المسودة بأي ثمن دون تحسب لمخاطر هذا الاستعجال على السلم الأهلي ووحدة اليمن واستقراره. *** لعبت فكرة الفدرالية دوراً تخريبياً هائلاً في المرحلة الانتقالية، لأن الرئيس هادي ومعتنقي "الفدرالية" على تنوع (وتضارب) دوافعهم وأهدافهم، جعلوا منها "إله" يعبد من دون الله. وكذلك فعل اللقاء المشترك والحوثيون و(إلى حد ما) المؤتمريون الذين كانوا قبل 2011 يعتبرون الحكم المحلي كفراً بالوطنية. لقد سمح الرئيس هادي، بتشجيع من أحزاب المشترك وسفراء دول غربية مؤثرة، بأن يوضع كيان الدولة التي يرأسها على طاولة النقاش في موفنبيك جنباً إلى جنب السلطة والاصلاحات السياسية والانتخابية والقضايا السياسية الملتهبة جراء سياسات النظام السابق. كان مؤدى هذا التكديس للقضايا والتطلعات والتصورات المستقبلية (الرومانسية غالباً) في مكان واحد حتى إذا كان فندق 5 نجوم هو ما يحدث اليوم؛ "عاصمة محتلة"، كما يقول مؤيدو الرئيس نفسه، من ميليشيات، ورئيس "هارب"، كما يقول مؤيدو الجماعة، من العاصمة، ولجان شعبية في مدن عدة، وجيوش قبلية في مأرب وشبوة وغيرهما من المحافظات التي يحتمل أن تكون ضحية لغزوات حوثية جديدة. إن القول بأن هذه الوضعية كانت حتمية (بدعوى أن في اليمن "مركز مقدس") أو تحميل طرف واحد فقط مسؤوليتها، هو قول مجاف للحقيقة يستهدف تضليل الرأي العام المحلي والخارجي. فالثابت أن هناك من حذر من خطورة المضي قُدماً في المسار الانتقالي طبقاً لتفضيلات الرئيس هادي وقادة المشترك والدول الراعية. ويمكن لأي متشكك في هذه، القول العودة إلى نص استقالة عضوي اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني رضية المتوكل وماجد المذحجي، واللذين اضطرا إلى الاستقالة جراء تواطؤ السيد جمال بنعمر مع السلطة الانتقالية ضداً على المصلحة العليا للشعب اليمني. الدول لا تنهار تلقائياً، والمجتمعات لا تغرق في الحروب الأهلية لمجرد أن هناك تشوهات وأحقاداً ورواسب كانت غير ظاهرة على السطح، ثم تفجرت دفعة واحدة في وجه الجميع. ومن غير العلمي عزو ظاهرة سياسية (أو تحولات سياسية واجتماعية) إلى عامل أوحد، كما يفعل عديدون في اليمن منذ سنوات، عندما جعلوا من مفردتين اثنتين محوراً ودليلاً لفهم أي ظاهرة أو مستجد في اليمن. هكذا تحول "المركز المقدس" من مجرد اجتهاد لأحد السياسيين اللامعين لمقاربة أزمة الدولة اليمنية في القرن الماضي إلى "عقيدة" تزود المؤمنين بها بإجابات ناجزة وسريعة على كل الأسئلة التي تواجه اليمني في حياته الدنيا. صار "المركز المقدس" مدخلاً لتدنيس كل ما له صلة بالوطنية اليمنية. ومن دون أن يكون في الأمر سوء طوية بالضرورة، فإن كل الشرور التي أصابت اليمنيين خلال العقود الأخيرة صار لها "منبع" وحيد، هو "المركز المقدس". والحاصل أن "عنفاً لفظياً" هائلاً تم توجيهه نحو فئات من اليمنيين بجريرة أنها "المركز المقدس". جرى هذا بالموازاة مع تجريد الرئيس السابق صالح وحلفائه من القوة، تدريجياً، وتكريس خطاب سياسي وإعلامي يجعل من المرحلة الانتقالية فرصة ذهبية لأن يتخلص اليمنيون في المناطق الوسطى والغربية والجنوبية والشرقية من اليمنيين "المشيطنين" في المنطقة الشمالية. تضافر هذا العنف اللفظي وسياسات مرتجلة للسلطة الانتقالية فككت الجيش وأضعفت الروح المعنوية لأفراده وكرست حالة شقاق بين وحداته وأشاعت فرزاً على الهوية الاجتماعية والسياسية بين قادته. في هذا السياق الكارثي، شق الحوثيون المبرؤون من أوزار الرئيس صالح وحلفائه القبليين والعسكريين (الأوفياء والمنشقين) طريقهم إلى العاصمة في وقت قياسي دون أن تعترضهم أية قوة على الأرض. *** لقد أهدرت سلطة الوفاق، برئاسة هادي، فرصة تلو أخرى، لتدارك الأخطاء وتصحيح المسار الانتقالي. وهي أنهت في وقت قياسي كل الإيجابيات التي وفرتها الثورة الشبابية في 2011 وبخاصة الروح الوطنية العارمة التي رممت بعضاً من التشوهات والصدوع التي خلفتها حقبة الاستبداد والفساد والحروب الداخلية في الشخصية اليمنية. بدلاً من تأجج "الذاتية اليمنية" في 2011 تتجاذب اليمنيين، في الوقت الراهن، دعوات عصبوية، مناطقية وطائفية وسلالية، تذكر بأسوأ ما تختزنه الذاكرة الجمعية من حروب وفتن ومذابح. *** في سبتمبر الماضي نفذ الحوثيون قفزتهم الكبرى في مسيرتهم القتالية، باقتحام العاصمة صنعاء، وتمكنوا من وضع حد لأية نقاشات بشأن تحسين مخرجات الحوار الوطني، إذ جعلوا من مسودة اتفاق جديد بين السلطة وبينهم، اتفاقاً ناجزاً يوقع عليه ممثلو الأطراف نفسها التي شاركت في موفنبيك. ألزم الاتفاق الجديد الأطراف الموقعة بمراجعة المخرجات المتعلقة ب"شكل الدولة". بدت هذه الفقرة من الاتفاق هامشية لكثيرين وخصوصاً "الفدراليون" اليمنيون وجمال بنعمر وسفراء الدول الراعية. لكنها في الواقع كانت "الفقرة المفتاح" التي تفسر كل ما جرى في اليمن حتى 21 سبتمبر، وكل ما سيجري بعد ذلك اليوم الذي كرس ما يشبه الانقسام بين فئتين من اليمنيين هما "الحوثيون" ومن والاهم، وغير الحوثيين. لكن الحوثيين ليسوا مجرد فئة من اليمنيين. إنهم "جماعة" صاعدة تستثمر كل الفجوات والصدوع التي خلفها نظام صالح أو تسبب بها مسار انتقالي فضفاض وغير آمن. وهذه الجماعة هي خليط من عقيدة (شمولية دينية) ومصالح (سياسية واقتصادية) وعصبية (بالمعنى الاجتماعي). وهي على أية حال جماعة تتركز في (وترتكز على) مناطق زيدية تقليدية اتسع مفهوم "المركز المقدس" في المرحلة الانتقالية ليشملها برعايته الكريمة! هكذا صار للتقسيم الأولي لليمنيين في خريف 2014، عنصراه الأساسيان: حوثيون وغير حوثيين. لكن هذا التقسيم لا يخدم الهدف النهائي لدعاة التقسيم، فكان من الضروري التقدم في التقسيم خطوة أخرى اعتماداً على وحدة قياس أكثر عملية: المركز المقدس (آزال) والأقاليم الخمسة الأخرى. انطلاقاً من وحدة القياس الرائجة هذه، صار من الممكن الحديث عن زيود وشوافع، مطلع ومنزل، يمن أعلى ويمن أسفل، شمال وجنوب ومشرق وتهامة،... وهكذا انحطت لغة السجال في اليمن لتبلغ الدرك الأدنى بعد سيطرة الحوثيين على دار الرئاسة ووضعهم الرئيس هادي قيد الإقامة الجبرية. أعاد الرئيس هادي وكل المشاركين في موفنبيك، وبخاصة الحوثيين أنفسهم، تعريف اليمني طبقاً لمعايير شديدة البدائية. وأغلقوا الخيارات المستقبلية على ثلاثة: فدرالية من أي نوع؛ انفصال بأي وسيلة؛ دولة الرئيس السابق علي عبدالله صالح (بكل مثالبها وبخاصة التركيز العاصمي والتسلط العصبوي). حرم اليمنيون من خيارات عديدة أخرى. وقد تكفلت "صناعة الإجماع" بتوجيه ال500 مشارك في موفنبيك إلى "قبلة" الفدرالية باعتبارها الدين الذي لن يضل اليمنيون من بعد اعتناقه أبداً. كان من موجبات هذا الإغلاق على الخيارات، الحؤول دون أية فرصة لالتقاء اليمنيين. ووأد أية محاولة لتذكيرهم بخيارات أخرى، ورفض أية مقترحات من أجل الإعداد الجيد للحوار الوطني بما في ذلك رفض التهيئة عبر إجراءات بناء ثقة في الجنوب وصعدة. كان المطلوب أخذ اليمن في المرحلة الانتقالية إلى التقسيم السياسي. وقد فعل جمال بنعمر وخبراؤه الذين يجهلون اليمن، كل ما يتوجب فعله لإقناع اليمنيين بأن الفدرالية ستأخذهم إلى الجنة. *** في خريف الحوار نشب خلاف بين المبشرين بالدين الجديد حول عدد الأقاليم الذي سيعتمد لتقسم اليمن. كان هناك معسكران غير متكافئين: معسكر قوي برئاسة هادي ويضم الإصلاح والمؤتمر والناصري واتحاد القوى الشعبية وتكتلات شبابية ومدنية، وقد عزم أمره على تقسيم اليمن إلى 6 أقاليم بما يضمن تقسيم الجنوب إلى إقليمين على الأقل؛ ومعسكر آخر يضم الحزب الاشتراكي و"مؤتمر شعب الجنوب" (مكون محمد علي أحمد) وجماعات صغيرة أخرى لا تتمتع بقوة تصويتية في مؤتمر الحوار. بين هذين المعسكرين وقف الحوثيون معتمدين أسلوب "الشيطان الأكبر" في "الغموض البناء". لم يقولوا كلمة فصل بخصوص مشروعهم التقسيمي الخاص، لكنهم أبدوا تحفظهم لاحقاً، طريقة ومعايير تقسيم اليمن إلى 6 أقاليم. وأرسلوا إلى أطراف جنوبية وحزبية ما مفاده أنهم يمكن أن يقبلوا تقسيماً سياسياً من إقليمين؛ شمال وجنوب. وقد بدا هذا وجيهاً بالقياس إلى ما كان يردده بعض الحوثيين قبل 2014، من أن الجماعة تؤيد حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم! فضلاً على هذه التصريحات، كان ناشطون جنوبيون، خصوصاً الموالين لنائب الرئيس الأسبق علي سالم البيض المدعوم من إيران، يظنون أن تقدم الحوثيين في الشمال يقرب "اليوم الموعود" الذي تتنزل فيه الفدرالية على الجنوب، ثم يكون من بعد ذلك قرار بشأن الوحدة. *** يمكن اعتبار "الفدرالية" الكلمة المفتاح التي تفسر سلوك جميع الأطراف في المرحلة الانتقالية. والشاهد أن "الفدرالية" بما هي موضوع مدرسي، شديدة الإغواء. أنها للوهلة الأولى الحل السحري لكل مشاكل اليمنيين مع دولتهم الراهنة. كما أي حل سحري يتكثف في مفردة واحدة، صارت الفدرالية دين الشموليين بمختلف تياراتهم. لا يمكن تفسير هذا الانجراف العميق من قادة الأحزاب اليسارية والاسلامية والقومية في "الدين الجديد" من دون الإمساك ب"شموليتهم" المنجرحة أو الآفلة. لقد قاربوا مسألة "كيان الدولة" كما كانوا يقاربون مسألة العدالة الاجتماعية أو مسألة "الوحدة العربية" أو "الوحدة الإسلامية". كذلك حل شعار "الفدرالية هي الحل" محل "الإسلام هو الحل" ومحل "حتمية الحل الاشتراكي" ومحل "الوحدة العربية آتية لا ريب"! في عام الحوار الوطني (2013) عاد الشموليون في اليمن إلى صباهم! لقد وفرت "الفدرالية" علاجاً سحرياً لحالة الضياع التي دخلوها جراء أفول، أو انكشاف عيوب وثغرات، "أيديولوجياتهم" الشمولية. صار للشمولي، الآن، ما يعيد إليه اعتباره. هكذا، انغمس شموليو الماضي في تخليق شمولية جديدة من مسألة تجريبية محضة، هي "شكل الدولة". ومن يعيد تتبع مسار الحوار الوطني، وتصريحات أبرز شخصياته، سيضيع وسط أكوام من المقولات التبشيرية التي انتشرت في عام الحوار. لكنه لن يجد أية دراسة علمية جادة تناقش الفدرالية في العمق. شخصياً، أعرف أن الأطراف التي شاركت في مؤتمر الحوار، لم تكن مزودة بأية دراسات أو استطلاعات تتعلق بالدين الذي يبشرون به. لم يكن أي حزب قد ناقش بشكل مفصل كيف سيفدرل اليمن، وهل بالوسع حقاً تحويل جنس دولة من "دولة بسيطة" إلى "دولة مركبة". وفي حال أمكن هذا، ما هي الكلف المتوقعة؟ وما هي المخاطر المحتملة؟ وهل سيؤثر تقسيم شعب واحد سياسياً على عدة أقاليم على هويته الوطنية؟ وما هي الآثار المتوقعة على حقوق المواطنة لليمنيين جميعاً؟ وكيف يمكن تفكيك دولة باسم الفدرالية من دون أن يؤدي ذلك إلى تفتيت الهوية الجامعة لليمنيين؟ *** لم يحضر أي فدرالي جيداً للاختبار. كان المطلوب انتزاع قرار بأي ثمن وبأسرع وقت، يسمح بتحويل اليمن من دولة بسيطة إلى دولة مركبة. لم يظهر أي خلاف ذي معنى بين الفدراليين الذين ظلوا حتى نهاية صيف 2013 على قلب "فدرالي واحد". لكنهم سرعان ما تضاغنوا بدءاً من سبتمبر 2013. كانوا في الخفاء، وبعيداً عن "أرانب السباق" في موفنبيك، يتفاوضون على عدد الأقاليم! وفي رمضان من ذلك العام كانوا قد توصلوا إلى اتفاق أولي بتقسيم اليمن إلى 5 أو 6 أقاليم. لكن الحزب الاشتراكي اليمني أظهر لاحقاً أنه متمسك بخيار الإقليمين (شمال وجنوب). بينما التزم الحوثيون "الغموض البناء"، مبقين على هامش مناورة يساعدهم على تأجيل أي صدام بأي طرف، وانتظار مستجدات العلاقة بين أطراف المبادرة الخليجية. *** في ذلك الخريف، كان من الواضح أن الحوثيين يواصلون تقدمهم في الشمال. وأن جماعات وازنة في حضرموت تتطلع إلى إقليم خاص بالمحافظة، وليكن إقليماً يضم محافظات أخرى إن لزم الأمر. كان الرئيس هادي من أوائل معتنقي الدين الجديد. لكن حليفه الحزبي الرئيسي، وهو التجمع اليمني للإصلاح الذي لعب إلى حد بعيد، دور الحزب الغالب (أو المسيطر)، كان من المؤمنين التابعين(!). والحاصل أن الرئيس والإصلاح التقوا في منطقة "الأقاليم ال6". كانا ضد فكرة الانفصال. وبالتالي وقفا بشدة ضد فكرة الإقليمين. كانا يعرفان أن فكرة الإقليمين لها جاذبية أقوى لدى حلفائهم في الجنوب والشمال. وكلاهما أدرك أن ضرب هذه الجاذبية يتطلب فكرة أكثر جاذبية أو فكرة معطلة! في منتصف 2013 بدأ الرئيس هادي والإصلاح (وغريمهما الأول حزب المؤتمر الشعبي) الدفع باتجاه إقليم شرقي محوره حضرموت. كان هذا التكتيك يثير جنون الحزب الاشتراكي والحراكيين. فقد ظهر أن في حضرموت وشبوة نزوعاً قوياً للابتعاد عن محافظات الجنوب الأخرى. وقد جرى استدعاء مشروع بريطاني يقسم الجنوب إلى محميتين، غربية وشرقية انطلاقاً من عدن. هكذا استقطب مشروع الأقاليم ال6 كل خصوم الحراك والاشتراكي أولاً. كان تقسيم الجنوب (السياسي السابق) إلى إقليمين يجهز تلقائياً على أي أمل في استعادة "الجنوب السياسي" باسم الفدرالية أو بهدف الانفصال (أو فك الارتباط بحسب علي سالم البيض). [يحضرني هنا لقاء بسياسي بارز من المشترك في خريف 2013، وقد سمعت منه مباشرة ما يمكن اعتباره تعهداً بمواجهة مشروع الإقليمين بأي ثمن حتى لو اضطر حزبه إلى لعب الورقة الحضرمية!] كسب مشروع الأقاليم ال6 تأييد القوى الرئيسية في موفنبيك باستثناء الحزب الاشتراكي. وقد وجد التجمع اليمني للإصلاح في هذا المشروع ما يبدد هواجسه من التنامي المتسارع لقوة الحوثيين في الشمال. هكذا صار إقليم "آزال" حلاً مثالياً للمسألة الحوثية. كان مطلوب تحجيم الحوثيين في الشمال الزيدي خصوصاً وقد ظهر للجميع أن هذا "الشمال" سيكون للحوثيين فيه الكلمة الفصل. وقد تحمس الإصلاح لفكرة إقليم شمالي خاص بمناطق نفوذ محتملة للحوثيين. وقد أدى هذا التقسيم الطائفي إلى ضم محافظة ذمار، بما هي محافظة سكانها في أغلبهم من اليمنيين الزيود، إلى إقليم "آزال" بعدما كان التقسيم الأولي يضعها في إقليم "سبأ". [توجد تفاصيل موجعة بشأن هذا التقسيم البدائي لليمنيين] في ديسمبر 2013 خرج الدكتور ياسين سعيد نعمان (بما هو نبي الفدرالية في اليمن أو ما يمكن أن يكون "فرانكشتاين الأول" في اليمن) مغاضباً بعدما تيقن من أن الرئيس هادي حسم موقفه لصالح الاقاليم ال6 متحالفاً مع الإصلاح وقطاع مؤثر من حزب المؤتمر الشعبي وكل أؤلئك الذين يتطيرون من انفصال يمهد إليه تقسيم فدرالي من إقليمين. وقد تشكلت لجنة لتحديد عدد الأقاليم بتفويض شبه مطلق للرئيس هادي من مؤتمر الحوار الوطني. وفي اللقاء الأول للجنة بدا الرئيس هادي حاسماً ومستعجلاً قرار التقسيم الجاهز. وهو طلب من اللجنة إنهاء مهمتها (الاستراتيجية والمعقدة) في ظرف يومين، لكن أعضاء في اللجنة أقنعوه بأن إنجاز المهمة بهذه السرعة يثير شبهات في أن اللجنة لم تفعل شيئاً سوى الإذعان لمشيئة الرئيس الذي شكلها. تحلى الرئيس بالصبر مراعياً الشكليات. وأنهت اللجنة مهمتها بنجاح، لكن ممثل جماعة الحوثيين رفض التوقيع على "تقسيم اليمن"؛ لأن لديه تحفظات. وكذلك قال عبدالملك الحوثي مراراً في العام الماضي. *** انعكس مشروع التقسيم موادا في مسودة الدستور. وفي الأثناء كان الحوثيون يتابعون تقدمهم جنوباً بدءاً من صعدة. وقد استولوا على عمران ثم على العاصمة في سبتمبر الماضي. كان هذا التطور يثير قلق الفدراليين (السداسيين، إن جاز الوصف). وكم كان لافتاً أن هؤلاء، وهم مسؤولون رفيعون في الحكومة والبرلمان والأحزاب والسلطة المحلية، سارعوا إلى إجراء اتصالات ومشاورات ولقاءات لبحث هذا التطور الخطير الذي يهدد مشروعهم الافتراضي. كان التقسيم لا "العاصمة المحتلة" هو ما يثير قلقهم. وقد اجتمع ممثلون افتراضيون من إقليم "الجند" وإقليم "حضرموت" لغرض تدارس ما يمكن فعله لمنع الحوثيين من تغيير صيغة التقسم، خصوصاً وأن الحوثيين كانوا قد تمكنوا من إدراج مطلبهم بإعادة النظر في موضوع شكل الدولة، في اتفاق السلم والشراكة. *** يمكن ببساطة تفسير سلوك الفاعلين السياسيين اليمنيين انطلاقاً من "الفدرالية"، بإقليمين أو بستة أقاليم. في هذا السياق يمكن فهم ما ورد في موقف الحزب الاشتراكي من الإعلان الدستوري. فقد تضمن الموقف تجديداً على تمسك الحزب بخيار الإقليمين! بالنسبة لأي قارئ عابر، فإن الإشارة إلى مشروع الإقليمين في معرض بيان بشأن إعلان دستوري للحوثيين ينهي السلطة التوافقية ومرجعيات المرحلة الانتقالية، هو أمر مثير للاندهاش والعجب. لكن أي متابع لسلوك قيادة الحزب الاشتراكي يجد الأمر اعتيادياً على غرائبيته. ذلك ما أعنيه ب"رهين المحبسين". يمكن في المقابل قراءة سلوك التجمع اليمني للإصلاح في ضوء هذا المشروع. فقد أراد الإصلاح (المتحفظ أساساً على مشروع الفدرالية) تعويض خسائره المروعة في الشمال بتحفيز مشاعر دينية سنية في المشرق وتهامة وإب وتعز والجنوب. صارت فدرالية ال6 بمثابة طوق النجاة الإصلاحي من الوحش الفدرالي الزاحف من الشمال، والذي تخلق في عامي الحوار بفعل مثابرة الدكتور فرانكشتاين. *** يمكن تلخيص المشهد الآن على النحو الآتي: _ كانت الفدرالية مجرد فكرة يتم التلويح بها ضداً على مركزية طاغية لا تحتمل. _ صارت الفدرالية دين النخبة اليمنية بدءاً من عام 2012. _ صارت أفيون الشعب اليمني أيضاً. فاليمنيون مطالبون بإرجاء أهدافهم من الثورة الشعبية حتى تنزل الفدرالية في صيغة 6 فراديس. _ تمكنت السلطة الانتقالية من إرباك الحراك الجنوبي، وتحجيم الحزب الاشتراكي. _ في ما يشبه الاستجابة الغريزية للتحدي الفدرالي، تقدم الحوثيون بقوة في الشمال لمنع أي مخطط يعزلهم داخل إقليم آزال. وقد استفاد الحوثيون من الثغرات الظاهرة على التقسيم الاعتباطي الذي قام على أسس مناطقية وطائفية، ولأجل اعتبارات سياسية لبعض الأطراف في السلطة. _ يتضمن تقسيم ال6 أقاليم إكراهات لا حدود لها في ما يخص السكان داخلها. _ التقسيم يغذي حتى من قبل أن يتنزل خطوطاً وحدوداً على الأرض النزعات الطائفية والمناطقية في اليمن. _ التقسيم الفدرالي من أي عدد، يعيد تعريف اليمنيين كأقليات وأكثريات داخل كل إقليم. _ الفدرالية طبق التصورات الراهنة بما فيها مسودة الدستور، مستحيلة التحقق. _ يوجد مسودة دستور يلوح بها الرئيس هادي وكل خصوم الحوثيين. لكن الأكيد أن هذه المسودة لن تخضع لاستفتاء شعبي. فالانقسام الحاصل بشأنها يحول دون أن تصير "العقد الاجتماعي" لليمنيين. فهناك بالتأكيد نسبة مقدرة من اليمنيين لا يقبلون بها، في الشمال وفي الجنوب. _ حتى في حال أصر الرئيس هادي، بدواعي الثأر من الحوثيين أو استمراراً لمشروعه الأصلي، على تحويل مسودة الدستور إلى محور استقطاب لليمنيين ضداً على الحوثيين وعلى الحراكيين، فإنه لن يتمكن من نيل موافقة الشعب اليمني عليها. _ الفدرالية كما هو رأيي منذ البداية مستحيلة التحقق في اليمن راهناً. إن التبشير المستمر بفراديسها على الأرض، هو ما يثير المزيد من المخاوف حول مستقبل الكيان السياسي لليمنيين. وبالنسبة لي فإن ما يثير قلقي هو استحالة أن تتحقق بشارات الفدراليين وليس تحققها. _ بوسع أي كاتب أو صحفي أو أكاديمي، أن ينخرط كعامل مخلص في صناعة الإجماع. لكن عليه أن يتساءل أولاً عما كان يفعله الرئيس هادي والحوثيون والمشترك والمؤتمر وممثلو الشباب والمكونات المدنية والنسوية في موفنبيك خلال عام 2013. كانوا يصنعون الإجماع! الإجماع الذي مكن الحوثيين من الاستحواذ على عاصمة اليمنيين، ودفع الرئيس إلى اللجوء، سراً، إلى عدن التي صارت معقله بعد سيطرة اللجان الشعبية (ميليشياته) على المدينة. *** كما تفعل "صناعة الإجماع" في العادة. يخضع اليمنيون بمختلف شرائحهم ومناطقهم، لإكراهات غير مسبوقة. وسيكون من الجنون أن يتابع صناع الإجماع الإنتاج في بلد صار في "عين العاصفة"، ويستحيل على أبنائه، في الوقت الراهن، أن يعبروا بحرية عن إرادتهم في استفتاء شعبي. عقب اختتام مؤتمر الحوار الوطني في يناير 2014، اقترحت عقد حوار بين اليمنيين بعد تبديد فرصة حوار 2013. أجدد هذا المقترح الآن. بل وأشدد على ضرورته قبل أن يأخذ الرئيس هادي والحوثيون اليمن إلى حرب وجود، إلى مباراة صفرية، إلى قتال حتى النهاية قد يخرج طرف منه منتصراً لكن على "اليمن الخراب"! [الكاتب والمحلل السياسي اليمني سامي غالب، التحليل نشره في صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" ]