إليك أصداء من هواجسي .. كلمات إهداء خصني بها الدكتور سعيد الجريري ممنوناً ، كتبها بخطه المنمنم الجميل لمجموعة قصائده بالعامية الحضرمية التي دونها في قالب أجمل ، فأطلقت لخيالي العنان ورحت أتجول بين حديقته التي حوت كل فن وغصت في ثنايا الشعر والاستمتاع به ، فإذا بي أتوقف أمام تلك التفاعلات التي اجتاحت كيان الشاعر المبدع وهو يستعيد ذكرى نضال أجداده عندما تصدوا ببسالة للغزو البرتغالي على مدينتهم الشحر عام 1523 م . وما كان يمثله نصب تذكاري لشهداء المقاومة أقيم في منتصف الثمانينيات كرمز للبطولة في وجدان أبناء هذه المدينة التي جسدت معنى التلاحم بين مكوناتها المختلفة .. وهنا يمكنني أن استحضر للمرة الثانية ماقاله الكاتب ( عبدالناصر المودع ) عن طمس الهوية (( فإن نظام على صالح الشمالي يعمل على إلغاء الهوية الجنوبية بما تحمله من رموز ودلالات تاريخية وثقافية وفكرية ، بهدف طمس الهوية الجنوبية وجعلها تابعة ومدمجة بالهوية الشمالية .)) ولا غرابة إذا جاءت حرب صيف 94م وتداعياتها لتزيل معلماً من المعالم التي يعتز به أبناء هذه المدينة في خطوة ممنهجة ومدروسة لمحوه من ذاكرة الأجيال حاضرا ومستقبلا . والشاعر الدكتور وبتخيل انسيابي ذي رابط موضوعي تراءى له شاعر يأتي من ذلك العصر ويشنف مسامعه بهذه الأبيات التي بنى عليها أبياته اللاحقة : ويا ناسي تذكر كون فاطن هنا اللي قد هزمنا البرتغالي ولا هو من سوارحنا التخلي ولا تحسب جميل الصبر ذا هون ................................................. ما يعني أن ( جميل الصبر ) هو أساس تعامل الإنسان الحضرمي ، ولكن لايظن ظان أنه تخلى عن قيم النضال ، بل كانت تلك الصفة ومازالت متأصلة في النفوس وهي من جعلت للحضارم مكانتهم بين الشعوب عندما نشروا الإسلام في كل مكان من بلدان العالم ، وكان الشاعر الدكتور قد بنى على أبيات شاعره ( المتخيل ) بنظم بديع اقتطف منه ثمرات يانعة عبرت عن مكنوناتنا الداخلية .. حين قال : وذي ارضي وهو فيها مواطن ويتصدق علي والمال مالي ولا صحته فتح كيسه زقل لي فتافيت الخزي والذل والهون ........................................ وهو المأمون ومخالفه خاين وداعي تفرقة وإلا انفصالي زمن مذموم فيه الجيد مبلي بأمثال الذي كل يوم له لون ......................................... هذه الأبيات إسقاط لواقع نعيشه اليوم بكل ما فيه من قبح وبشاعة حيث ينهش الأخ لحم أخيه حيا وميتاً حين قال (زمن مذموم فيه الجيد مبلي .. بأمثال الذي كل يوم له لون ) .. نقلها الشاعر في صورة جمالية رائعة أبدع في نظمها .. كما استوقفني بيت أخر من أبيات هذه القصائد التي عبر فيها الشاعر عن ما يقوله القادم من الشمال الذي بسط يده على البر بثرواته وها هو يستولي الآن على البحر بعد أن دمر مراعيه التي هاجرت منه الأسماك بحثاً عن بيئة أخرى أكثر أماناً والحال ينطبق على المغترب الذي آثر الارتحال عن وطنه الذي لم يجد فيه عملاً بل بطالة أفقدته طعم الاستقرار النفسي ..وفي لهجة استفزازية تقول : ( قال هذا البحر بحري بالقي فيه المناكير ) وفي اللهجة العامية يقال لكل ماهو مخالف للحق ( الفره ) أي ( الباطل ) ولكن الشاعر بحكم امتلاكه ناصية الكلمة والسمو بها رفع من قيمتها الدلالية بقوله ( مناكير ) جمع لمفردة ( منكور ) وهو الشئ الغريب المستهجن وغير المقبول أخلاقيا . وتبرز الأرض في شعر الدكتور الجريري كقيمة لا يمكن التفريط بها كونها من يحدد أقدار الناس في مجتمعاتهم بسبب درجة تأثيرها في نفوسهم والارتباط الوجداني بجذورها التاريخية كالعلاقة الحتمية بين السبب والنتيجة . و الشاعر الجريري يشير إلى الممارسات التي يعاني منها صاحب الأرض بأسلوب حواري طريف وفي قالب شعري جميل محاكاة لمأساة أحد مواطني بلده الذي أوقعه حظه العاثر في المكان الذي اعتاد الجلوس فيه مع شلته التي كان ينتظرها ، فإذا بأطقم الجيش بقضها وقضيضها تحاصر الموقع وقد تحول الحي إلى ساحة حرب حقيقية انتشرت في أرجائه الأطقم العسكرية .. وفي لهجتين مختلفتين تنبي بالتنافر وعدم الانسجام بينهما .. إذ يقول شاعرنا المبدع : وجلست ع الدكه ... قفز لي بالسلاح جندي كما السكني فدر قلبي ، وصاح " ما تفعل أنته ها هنا ؟ " قلت " السماح نا الا على العاده هنا ومساهن البشكا " ................................................... قال " أنت أعمى ؟ ! ما بتبسر ؟ " قلت : ليش ؟ قال : " ابتعد بسمه .. أمامك ضقم جيش لا عد ش تعصد لي محازي " قلت : ليش ؟ قال : " أيش ما بلا ولا تجلس على التكا " حالتان نقيضتان : يخيل إلينا من خلالهما أن الناس تختلف في انتمائها للبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها في مناقضة صارخة بينهما بما تحمله من آفات نفسية لصيقة بها ، هذه الآفات هي أشبه بالثمرات في التربة المزروعة تمتص كل ثمرة من أرضها وهوائها وضيائها ما يلائم بذورها ويوائم طعمها وشكلها ولونها .. وفي البذور سر ذلك التباعد على القرب بين الثمرتين . ............................................................ وفي سخرية لاذعة استدعت غرابة الشاعر في بداية أبياته الأولى .. يقول مريت في الحافة وذي أطقم جنود وأطقم دواشك ما كماها على الحدود ......................................................................... وما يعرفه القاصي والداني بأنه في كل بلدان العالم تكون مرابطة الجيوش على الحدود للدفاع عن حياض الأوطان ، ولكن هنا يختلف الأمر تماما ذلك إن معظم وجود قوات الجيش في المدن الرئيسة ، وعبارة الشاعر ( ما كماها على الحدود ) كانت إشارة من طرف خفي بان ما شاهده بطله من الكثافة العددية للأطقم يفوق ما يوجد على الحدود .. وهذا مبعث غرابة كل من يرى ذلك المظهر من مظاهر التفوق العسكري في المدينة وكأنه استقواء على الناس وليس حماية لأمنهم واستقرارهم . وفي قصيدته ( الخانكي ) يقول الشاعر : يالخانكي لا تظن با تبقى مطاع الناس ملت ، والحياة مشاركه ولى زمان الهنجمه والانصياع ما اليوم ها قدها ، جمالك باركه تجمل على بعير المكيدة والخداع وتسير ودروبك ملاوي شائكة ........................................... في تلك القصيدة يؤكد الشاعر بما لا يدع مجالا للشك بأن المجتمع وعى طبيعة الوضع بعد أن مل الكيد والخديعة والدجل السياسي ، وهو اليوم لا تخيفه طريقة القائمين على شئون الأمة وهنجمتهم التي ما عادت تجدي نفعا معه ، بعد أن فهم بان المسألة باللهجة الدارجة ( يغولة في يغولة ) والجماعة بمنتهى الوضوح تجري وراء ( الكعكة ) ولا يهمها أي شئ آخر . والشاعرالدكتور سعيد الجريري قد تعرف على معالم شخوصه الإنسانية من خلال طباعها ونفسياتها ، وألم بوقائع التاريخ ومطامع السياسة التي أصبحت السمة الغالبة على أخلاقيات الساسة في زمن الابتلاء . وفي هذا السياق يقول السياسي الألماني المحنك " فون سيبل " مايلي : (( كثيرون من رجال السياسة والقائمين على مصالح الشعوب يخطئون أكبر الأخطاء ، ويدفعون بأنفسهم وشعوبهم إلى الهاوية والحضيض ، لعدم خبرتهم الخبرة الكافية بالماضي وأحداثه السياسية ، فيعجزهم ذلك عن أن يجدوا العظة والعبرة والصواب فيما يرسمون من خطط لحاضرهم ومستقبلهم )) ونكاد نجزم بان الشاعر استطاع وبكل اقتدار إيصال أفكاره إلى المتلقي بطريقة سلسلة ووظف كل أدواته الشعرية لهذا الهدف الذي سعى لتحقيقه .. فكان شعره مطبوعاً على العلانية والتحدي في مسارات عدة .. فلم يخف ما يعتمل في وجدانه كإنسان قبل أن يكون شاعراً .. هنا فرض هذا الشاعر قبوله في قلوب من أحبوه يتألمون لألمه ويفرحون لفرحه ويشاركونه وجدانياً لنقله همومهم ومعاناتهم شعراً وبلهجاتهم المختلفة ، ومتى وجدت هذه القرابة الفكرية والذهنية بين الشاعر ومحبيه كانت ثمة حالة من التوازن والتضامن والترابط الاجتماعي وكأنهم بمعيته لايمنعهم طول الزمان ولا يحول بينهم بعد المكان بحيث تجعلهم أشعاره أكثر استجابة لنداء الخير وهمسات الحق والصواب فلا تبقى نفوسهم تائهة في بيداء الغموض فيعمل كشاعر على إجتلاء أمرها وتنقيتها من شوائب الوهم والتخمين . وخير ما أستشهد به هنا الصحابي الجليل مصعب بن الزبير حين قال ( يتحدث الناس بأحسن ما يحفظون ، ويحفظون أحسن ما يكتبون ). والعقل البشري مخزن به الآف الحقائق والتجارب ، ولكنه يحتفظ بما هو انفع وأجدر بالحفظ ، والشعر هو الأقرب إلى تلك الحالة ، قصيدة واحدة يرددها ملايين البشر فتحفظ عن ظهر قلب دون عناء وتظل راسخة في عقولهم حتى الممات .