حينما وصل الفتى كرامة إلى المكلا.. كان الفرح يخرج من بين أصابعه والسعادة تخفي ملامح القرية عن وجهه، ترجمة للنسبة المرتفعة التي حصل عليها في الثانوية العامة 93% "ما شاء الله تبارك الله".. كان حلمه أن يلتحق بكلية طب جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا على أساس أن المحاضرين فيها يحملون شهادات عليا "دكتوراه" في التخصصات الطبية ويتحدثون اللغة الانجليزية بطلاقة ومن ذوي الخبرات في التدريس والتعامل مع الطلبة بصورة عامة والحديثي الالتحاق بالجامعة خاصة. كان حُلم كرامة القروي ابن القرية الصغيرة في حضرموت أن تكون في جامعته وتحديدا كلية طب جامعة حضرموت مختبرات علمية ومعامل وأن تمتلك مستشفى جامعيا عصريا خاصا بها مثل جامعات العالم.. لكنه عندما وصل المستوى الرابع في دراسته كان يستعجل الخروج "التخرج" من الجامعة مكتفيا بالحصيلة النظرية التي يحصل عليها أثناء دراسته وبما ناله من التعامل غير المرن من بعض أعضاء هيئة التدريس. كان حلمه بعد التخرج البحث عن مستشفى أم مستوصف أم عيادة أم قرية أو أي مكان يحصل فيه على الامتياز. كان كرامة المسكين يحلم بأن يعمل في مستشفى نظيفا داخل بلده مستشفى فيه أجهزة طبية ومعدات تسمح بأجراء العمليات الصغرى والكبرى دون الدفع بالمواطنين لبيع ما يملكون واللجوء للاستدانة وإراقة ماء الوجه من اجل السفر للعلاج في الخارج.. لكن كرامة أكتشف أن عليه البحث عن عمل في أي موقع يدفع له آخر الشهر راتبا. كان حُلم كرامة قبل التخرج من الجامعة أن يجد زوجة جميلة من طراز الصبايا الناعسات الناعمات الفاتنات اللائي يظهرن في الفضائيات ويتمايلن بأجسامهن الطرية وشعورهن الطويلة وخدودهن الوردية وعيونهن الواسعات.. إلا أنه بعد التخرج بداء البحث عن فتاة عاملة راتبها في حدود أربعين ألف ريال "أقل من مائة وخمسة وسبعين دولارا أمريكيا" وليس شرطا أن تكون ناعسة الأجفان مخضبة اليد أو ظريفة الطول. كرامة كان يعتقد أنه بعد أن يصبح طبيبا فإن بإمكانه امتلاك فيلا من طابقين ومجلس كبير يطل على حديقة صغيرة مليئة ببعض من الخضروات والفواكه يستقبل فيه ضيوفه من الأطباء والعلماء كما تحتوي الفيلا المرسومة في الخيال على مسبح وجاكوزي وموقف لسيارتين. أدرك كرامة بعد التخرج أن أمامه خيار واحد, أن يعيش في شقة من ثلاث غرف مع شقيقة الأكبر ووالدته وأخواته الثلاث, وأن تقبل غرفة النوم القسمة عليه وعلى شقيقه فيتبادلا النوم فيها ليلة بليلة. كان الحضرمي كرامة يحلم بأن يكون في فيلته أربعة عشر مصباحا يشرق نورها على الحديقة وجزء من الشارع لكنه الآن يعتبر أن انقطاع التيار الكهربائي في اليوم الواحد على الأقل خمس ساعات إنجاز حضاري للمؤسسة العامة للكهرباء تستحق عليه التهاني على شريك القنوات الفضائية التي تبث الرسائل الهاتفية. وكان ضمن خطط كرامة أن يضم مسكنه اثني عشر مكيفا من حمولة الثمانية عشر ألف وحدة "طن ونصف الطن".. إلا انه اكتفى بمكيف واحد بقوة "نص طن" واعتبر ذلك ترفا كبيرا لأنه من المظاهر المضرة بالراتب لاسيما بعد الزيادة في تعرفة الكهرباء. معاناة كرامة كما بدا له أنها ستنتهي فيما إذا قرر العودة إلى قريته وفتح عيادة صغيرة مستفيدا من تعويضات متضرري كارثة سيول حضرموت الكبير لكنه لم يحصل على التعويض أو حتى جزء منه, فما كان من كرامة إلا أن غير مسار أحلامه إلى اتجاه الهجرة خارج البلاد والبحث عن فرصة عمل لطبيب. لكن ذلك لم يكن بالأمر اليسير فدون ذلك تأشيرة عمل واستقدام وشهادات خبرة وطرقات مغلقة بشروط لا يمكن لقروي مثل الفتى كرامة مؤهلة بكالوريوس في الطب أن يفتحها. وحينما ضاقت الأحلام بكرامة, فتح جهاز التلفاز فشاهد الفنان علي بن محمد يؤدي أغنية من التراث الحضرمي بتوزيع جديد مصحوب برقصة جميلة وممتعة.. استمتع كرامة بذلك كثيرا.. ثم عضّ على شفتيه قائلا حتى الأغنية الحضرمية حينما تهاجر تلبس ثوبا مطرزا بالجاذبية والحُسُن والأحلام. ثم نام الفتى كرامة متوسدا شهادة التخرج من كلية الطب, لعل النوم يقدم له حلما ينسيه بعضا من مرارة اليقظة.