دار المكان وتشقلبت الصورة، جراء موجة طاعنة من الألم، برأس دائخة ونظرات زائغة مع كثير من التحدي قرر الانتقال من التعايش مع الألم إلى مجابهته عبر مفاعيل الصحة. وهو ممد على ظهره ورجلاه مقوستان على سرير العمليات، غابت الصورة الشخصية وحضرت اليمن، شلّ التخدير نصفه المقوس، فيما أُفردت يداه وربطت بأجهزة لقياس الضغط. العجز سيد الموقف، وفقدان السيطرة شعار اللحظة. وفيما هو عالق على حدود رملية متحركة بين أوجاع الذات والوطن، أسدل الأطباء قطعة قماش أمام عينيه حجبت عنه الروية، واكتمل مشهد الحضور العاجز. هو وحده فقط المعني، والغائب. شرع الطبيب في إعمال مبضعه، والتصرف وفقا لما تمليه المهمة، تعطلت عملية الاتصال بين أعضاء الجسد نصف المتخشب الملقي على سرير الطب، وفرض الطبيب سيطرته على النقاط الحساسة ومراكز السيطرة والقرار. اعترته العديد من المشاعر المتناقضة، خجل الوضعية، ومتطلبات العلاج، عجز اللحظة، وفاعلية المستقبل، وتهادت صورة اليمن إلى ذهنه، وأخذ يحدث نفسه، أي سلطان يملكه الطبيب دون تفويض مني، إن شهاداته الأكاديمية وخبرته الطبية لا تخوله إجبار أحد على المثول بين يديه، إنه قوي وفاعل بقدر التفويض الذي منحته إياه، وهو تفويض لابد منه من أجل التدخل الجراحي، وسلامة الجسد. بهذا العقد يمتلك الطبيب مشروعية إعمال مبضعه، وبهذا التفويض تتحدد طبيعة العلاقة بين الطرفين. كان شعور العجز ذابحا، تمنى لو أن بإمكانه فعل شيء يريحه ولو قليلا، تفحّص واقعه جيدا، وجد أنه لا فرصة لديه سوى انتزاع يديه من الأسلاك الموصولة به، وتنحية الستارة الموضوعة أمام عينيه. لكن مخاطر ذلك كبيرة، فقياس نبضه مرتبط بوضعية يديه، ثم ما جدوى تحرير يديه إذا كان جل ما يمكن أن يفعله هو أن يضرب صدره، أو يخمش بطنه. يا لها من فكرة غبية، أن يعمد الإنسان إلى الإضرار بذاته من أجل أن يقول إني موجود. طرد فكرة التمرد من مخيلته، وراح يفكر في طبيب التخدير، يا له من ملاك ماكر، وخبير رجيم، كيف فعل هذا بي، لقد فصلني عن ذاتي، وحال بيني وبين تباريح الألم. تبا له حد الشكر، وشكرا له حد اللوم. تمضي الدقائق بطيئة كالسلحفاة، الأطباء يواصلون عملهم، في حدود المهمة الموكلة إليهم. تعود اليمن إلى بؤرة الوعي، ويشرع المريض في تخيل الجدل الدائر عنه، فكل يرى المشهد من زاويته، فثمة من يقول ما أروع الفريق الطبي المختلط، والتعاون الخلاق بين الرجل والمرأة، وآخر نقيض يتبرم من حشر المرأة في كل شيء بما في ذلك الاطلاع على عورات الرجال. وثالث ينتقد لون السرير، ويشكك في إمكانات الطبيب، ورابع يتحدث عن غرفة العمليات ومدى مراعاتها للمعايير العالمية، وخامس يلوم المريض ويقول ليته مات صابرا على ألمه بدلا من أن يكون في مثل هذه الوضعية المخجلة، ورابع يشيد بالتطور المهول في عالم الطب، ويعتب على المريض كيف تعايش مع المرض طوال كل هذه المدة فيما العلاج متاح وآمن. فريق آخر يتجاهل كل الجدل الدائر سلفا، ويركز الحديث حول السوار الورقي الموضوع على معصم المريض، المخطوط عليه أسم المريض والجراح، ويرى في نسبة المريض إلى الجراح إلغاء لكينونة المريض، ولون من ألوان العبودية. الدقية العشرون، ينهي الطبيب مهمته، وتبدأ مرحلة أخرى من النقاهة تعتمد كليا على مدى المناعة الذاتية للمريض وتمسكه بحقه في الحياة. * من صفحة الكاتب على الفيسبوك