الوقوف على الأطلال سمة عُرف بها شعراء العصر الجاهلي، أو ما عرف بالنسيب، حيث يذهب الشاعر عند إنشاء قصيدته إلى أن يخصص مطلعها في الوقوف على الأطلال التي يمر بها فتضغط عليه ذكريات الديار والأحباب ، و هي ذكريات غالية عليه، فتهيّج الذكرى أشجانه، و تشعل لواعج حبه و وجدانه، فهو لا يرى في تلك الأطلال، و ما بقي فيها من رسوم، و آثار إلا شخص الحبيبة . فامرؤ القيس حين وقف على أطلال الحبيبة؛ وقف و استوقف، و بكى و استبكى، أو هكذا وصف وقفته بعض نقاد الأدب العربي قديما، أما هو فلم يك ليكترث بما سيقال عنه، بل هو يصف عواطفه الجياشة بكل ما تستطيع العاطفة أن تترجمه شعرا :
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل بسَقْط اللوى بين الدَّخول فحومل وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم يقولون : لا تهلك أسى و تحمل ففاضت دموع العين مني صبابة. على النحر حتى بلّ دمعي محملي
فهو وقوف يطرب سامعيه، و يلهب وجدانهم، و يستدعي ذكرياتهم، و يحرك أشواقهم :
و ذو العشق القديم و إن تأسّى مشوق حين يلقى العاشقينا
وقوف ينقلك فيه إلى جو من المتعة و الحب و الجمال ، و صدق المشاعر .
ويقف شاعر عربي من العصر الجاهلي؛ ليؤكد سمة القصيدة العربية التي درجت في هيكلها و مبناها الفني على ثقافة بناء تحددت معالمها، فطرفة بن العبد، هو الآخر يقف على الأطلال، أطلال دار الحبيبة، فيكون اسمها أول ما يطالعك من القصيدة :
لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقوفا بها صحبي عليَّ مطيهم يقولون لا تهلك أسى و تجلد و في الحي أحوى ينفض المرد شادن مظاهر سمطى لؤلؤ و زبرجد و تبسم عن ألمى كأن منورا تخلل حرّ الرمل دعص له ند
فيصف مشاعر نفسه الوالهة بعفة و احتشام، دون أن يبخس الحبيبة حقها ، و دون أن يخدش الحياء، أو يبتذل الكلام.
و هذا النابغة الذبياني، يترجّى صَحْبه - و قد مروا قريبا من الديار التي سكنوها يوما ثم رحلوا عنها - أن يعطفوا على ديار الحبيبة؛ ليلقوا عليها التحية، حيث شدّه الحنين إلى الديار و ذكرياته فيها، فيمضي يخاطب الأطلال، و يمتدح الحبيبة :
عُوْجُوا فحَيّوا لنُعْمٍ دمنة الدار ماذا تحيون من نؤى و أحجار؟ وقفت فيها سَراة اليوم أسألها عن آل نعم أمُوْنا عبر أسفار فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا و الدار لو كلمتنا ذات أخبار
و إن يمتدح حسنها و جمالها، فإنه أيضا يُطْرِي حسن خُلقها و طهر سلوكها :
بيضاء كالشمس وافت يوم أسعدها لم تؤذِ أهلا و لم تُفْحِش على جار
لقد صوروا بوقوفهم على الأطلال و الديار - يبكون و يستبكون - مدى الحنين، و عمق المشاعر لها و لساكنيها، و مهما عاب بعض النقاد و الشعراء المتأخرون على الشعر الجاهلي وقوفهم الباكي على الأطلال ، فإن أحدا لا يستطيع أن يغمطهم براعتهم و شبُوب عاطفتهم، و طرافة وصفهم لمشاعر الحنين، و رسم لوحات مائزة نادرة للحب و الجمال و الوفاء.
و إذا كان بالضد تتميز الأشياء ، فإن ما ذَكّر هذه السطور وقوف شعراء العصر الجاهلي على الأطلال ؛ هو وقوف بعض السياسيين على أطلال مُنْتَمياتهم السياسة . يقف بعض السياسيين يطلقون الحسرات ، و يوالون الأنّات مع التأوّهات، يبكون كثكلى، و ينتحبون كمستأجرة، و يتولّدون محاسن تلك الأطلال، و يتكلفون البحث عن صفات جمال لممدوحهم، فإن وجدوا نَزْراً من عمل بالغوا في تقدير حجمه، و عظيم أثره، و تعدد منافعه، فيتجندون جميعا للتغني في مدحه، و إن لم يجدوا في أطلالهم شيئًا راحوا يختلقون المحاسن، و يخترعون صفات الجمال، و بدلا من أن يُسْمِعوا الناس سحر الكلام و بليغ الشعر، كمافعل شعراء العصر الجاهلي؛ فإن هؤلاء البعض من الساسة يقفون بك على أطلالهم يتشكّون منتحبين، و يتباكون مولولين ، و ليتهم يقفون عند اختلاق محاسن أطلالهم فحسب، و لكنهم يُلحِقون نَدْبهم و بكاءهم تسفيه الآخرين و شتمهم، و الغَضْ من أقدارهم، و الانتقاص من كل أحد. و بينما ينشر أولئك الشعراء في وقوفهم على الأطلال جمال الحياة، و لذيذ الحب، و خلق الوفاء، و حب الديار و شذى الطيب و العطور :
و الطيب يزداد طيبا أن يكون بها في جيد واضحة الخدين معطار
يسمّم أولئك البعض من الساسة الأجواء بأحاديث الإفك، و ترويج السخط و الإحباط، و نشر الكراهية، و تسويق الكآبة و إثارة العداوة بين الناس. يقف الشاعر العربي القديم حتى في مواطن البؤس باحثا عن مظاهر الحب و الودّ؛ ليستلفت نظرك إلى الأمل و الجمال، فهذا عنترة يقول :
و لقد ذكرتك و الرماح نَواهِلٌ منّي و بيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
بينما أولئك البعض من الساسة يُصَعِّر خده مُعْرِضا عن كل فعل حسن أو عمل جميل؛ و كأن الكآبة سكنته، فهو لا يرى نفسه و العالم الذي يعيشه إلا في ظلام دامس، و ليل حالك. و من هنا كان هناك فرق كبير بين من وقف على الأطلال و الديار متغنيا بها، محبا لها؛ و بين من يقف في أطلال عالمه الكئيب محرضا على أهله، منكرا لمحاسن قومه، مستعديا على وطنه.