ثلاثون عامًا تمر الظباء بطاءً سراعًا.. سراعًا بطاء تسابق في ركضها الشاعري ثلاثين إلياذة من إباء أحمد بخيت
ثلاثون هي السنين التي حملت إلينا هذا الحزب الذي جري في عروق اليمن كالدم يجري في عروق الجسم، لا يترك طرفًا ولا جزءًا إلا صبغه بصبغته. من الحد إلى الحد ومن البحر إلى البحر، على كل التراب وفي كل الجهات راح الإصلاح يندغم في الجغرافيا معبرًا عن اسمه وكينونته ومتشرفًا باسم البلد الأحب: اليمن.
ولد شابًا هل كان الإصلاح وليد العام 90؟ يحتفي أصدقاء الإصلاح بعبور ثلاثين عامًا على تأسيسه، أعني التجمع اليمني للإصلاح، لكن الثالث عشر من سبتمبر لم تكن نقطة البداية. أتى الإصلاح الحزب كامتداد للحركة الإصلاحية اليمنية التي بدأت فكرية منذ الصنعاني والشوكاني، ثم تحولت إلى كيان اسمه حزب الأحرار الذي أسسه الزبيري عام 1942 في عدن، والذي تغير اسمه إلى الجمعية اليمنية الكبرى في العام 1944م. خاضت الحركة الإصلاحية في كل ميادين النضال بما في ذلك النضال المسلح، وكانت قلب الثورة 48 التي أفلحت في القضاء على الإمام يحيى ودشنت العد التنازلي لزوال نظام الكهنوت الذي حصل على أيدي ثوار سبتمبر من العام 1962. بعد ثورة سبتمبر، ظلت الحركة الإصلاحية منتبهة لبقاء اللوبي الإمام المتدثر بثوب الجمهورية، وخاضت معه صراعًا داخليًا مريرًا رغم اشتباك العديد من العوامل المثبطة داخليًا وخارجيًا، وفي سبيل ذلك دفعت وكانت الأساس في تأسيس المؤتمر الشعبي العام وإطلاق وثيقته التاريخية العظيمة (الميثاق الوطني). لن نتجاوز أن الحركة الإصلاحية، وفور انتهاء ثورة سبتمبر، لم تتهافت على المناصب بل دفعت بكل جهدها لتأسيس التعليم الجمهوري وتأسيس مناهجه ومحو وتخفيف الإرث السلالي العنصري الذي كان مفروضًا على اليمنين طيلة حكم الأئمة. وعند تأسيس التجمع اليمني للإصلاح، لم تقطع الحركة الإصلاحية اليمنية صلتها بالرجال الوطنيين في باقي الأحزاب والتيارات اليمنية، بل ظلت تضع يدها بأيديهم في سبيل النهوض بالوطن إلى حيث أرادت ثورة سبتمبر التي كانت خاتمة نضال اليمنيين، وهي في القلب منهم، ضد الاستبداد الكهنوتي الإمامي. يمكننا القول بأن الاصطفاف الجمهوري/ الإمامي في شمال الوطن، على الأقل، بقي حاضرًا إلى مراحل متأخرة من القرن التاسع عشر، وكان في مقدمة الصف الجمهوري: حزب الإصلاح والتيارات الوطنية في المؤتمر الشعبي العام وباقي الأحزاب، بينما في المقابل كان الصف المناوئ هو اللوبي الإمامي ومن يناصره من من تيارات متساوقة معه في بعض القوى السياسية بدوافع سلالية أو مصلحية أو نكائية ضيقة. في الثاني والعشرين من مايو من العام 90 تحقق لليمنيين أعظم منجز في تاريخهم الحديث، الوحدة اليمنية، التي لم تلم شمل الشطرين في كيان كبير اسمه الجمهورية اليمنية وحسب، بل لمت شمل الإصلاحيين في الشمال والجنوب في بيت اسمه التجمع اليمني للإصلاح. من بواكير الثورة إذن أشرقت شمس الإصلاح، وفي سماء الجمهورية والوحدة مد جناحيه.
ثوابت ثلاثة وفي ساحة متلاطمة بالصراع الأيديولوجي والفكري والمذهبي والمناطقي، وفي بلد يتربع المركز الثاني من بين شعوب العالم احتفاظًا بالسلاح، وبتقدير استحقاقات الموقع الجغرافي والجيوسياسي، أشهر الإصلاح منذ اليوم ثوابته الثلاثة. محاربة العنصرية بدوافعها المختلفة، كانت مذهبية أو سلالية أو مناطقية. لقد أفلح الإصلاح في إذابة الفوارق بين أبناء المجتمع اليمني. ذلك ما يتفق حوله الكثير. ولم يكن ذلك يسيرًا في المجتمع قبل أن يجسده الإصلاح في صفوفه، فالحزب يضع خلو العضو من النوازع العنصرية بأشكالها كمعيار صارم للالتحاق بصفوفه بعضوية فاعلة، ولهذا تجد قياداته في كل المستويات وأعضاءه الفاعلين معافين من أي لوثة عنصرية. الثابت الثاني الذي قام عليه الإصلاح والتزم به هو التوقف الكامل أمام حرمة الدم، ليس ذلك من منطلق وطني أو براجماتي فحسب، بل من منطلق ديني قبل ذلك. ولم يحدث أن تورط الإصلاح بأي حادثة عنف طوال مسيرته، رغم استماتة خصومه في إلصاق تهمة الإرهاب به أو استفزازه للسير في هذا المسار المحرم عند الإصلاحيين. ورغم التزامهم بهذا، كان ولا يزال قادة الإصلاح وأفراده يرخصون دماءهم ويبذلون أرواحهم راضين، حين يتعلق الأمر بالدفاع عن الوطن وحماية سيادته واستقلاله والذود عن مصالحه. حسن العلاقة مع الجوار، خصوصًا، المملكة العربية السعودية، كان هذا ثابتًا ثالثًا من ثوابت الحزب. فمنذ نشأته، احتفظ الإصلاح بموقف ثابت تجاه الأشقاء الخليجيين، موقف يعتبر أن اليمن جزء من هذا النسيج الإقليمي، وأن استقراره وأمنه تبع لاستقرار وأمن محيطه. ولم يسجل على الحزب أي موقف رسمي يخرج عن هذا المسار، بل ولا على المستوى الشخصي للقيادات الرفيعة في الحزب. تخلق وينمو هذا المبدأ رغم ما يواجهه من عواصف بين الحين والآخر. لم تكن الوحدة حلمًا ورديًا برغبة نظامي الشطرين في السيطرة والاستحواذ على جمهورية الوحدة، الأمر الذي خلق أزمة الفترة الانتقالية التي انتهت باندلاع حرب 94 وفيها كان الإصلاحيون مع غيرهم من الوطنيين شمالًا وجنوبًا في صف الوطن، ليس من أجل تكسب سياسي أو مصالح عابرة، بل من أجل التشبث بالحلم.
تجمعٌ يمنيّ وبعد أن وضعت حرب 94 أوزارها، طفى على السطح مشروع التوريث الذي مثل ردة صارخة إلى زمن الإمامة وكان بصياغة كاملة من قبل اللوبي الإمامي، ولاقى هوى ورغبة الرئيس صالح، الأمر الذي لم يمكن معه التهادن أو الصمت، فخيض النضال الوطني السلمي وأسس اللقاء المشترك، وسارت الأمور إلى ثورة فبراير 2011. كان صالح يعلم بهذه الاصطفافات ويستفيد من بقائها ويغذيها بتوازن معين، لكنه بعد حرب 94 عمي عن الخطر الإمامي وظن أنه يمكن استيعابه كقوة سياسية بديلة عن الإصلاح والتيار الوطني في المؤتمر الشعبي العام، وهو ما استيقظ عليه صالح فور سقوط صنعاء وفرض الحوثيين الحصار على مربع بيته في صنعاء منذ الشهر التالي للإنقلاب المشؤوم. خاض الوطنيون صراعًا شديدًا في دهاليز السلطة ضد اللوبي الإمامي، أفلحوا في بعض المواقع وخسروا في بعضها الآخر، ولم يكونوا يومًا أعداء لبعضهم. هل تتذكرون الانتخابات النيابية؟! كان الإصلاح ينزل مرشحين له في 80 دائرة من بين 310 دائرة، وهو المتواجد بشكل فاعل أو وازن في كل الدوائر، وكان يدفع قاعدته الانتخابية لاختيار المرشحين من التيار الوطني في معظم الدوائر الانتخابية المتبقية. هل تتذكرون انتخابات 99 وتصريح الدومي الشهير: نحن في الإصلاح مرشحنا علي عبدالله صالح، ولا نعرف بعد من هو مرشح المؤتمر الشعبي العام. سخرنا ولا نزال من هذا التصريح، لكنه في الحقيقة جاء كجولة من جولات الصراع مع التيار الإمامي في المؤتمر ومحاولة أخرى لطمأنة صالح وجره بعيدًا عن ذلك التيار. حرص الإصلاح على التقريب بين فرقاء الوطن انطلاقًا من إيمانه وقناعته الراسخة بأن اليمن بيت الجميع، وأن لأبنائه الحق فيه وعليهم الحق له. ولأجل هذا عمل جاهدًا على بناء التحالفات بين مختلف الأحزاب الوطنية تحت مظلة الثوابت الوطنية المشتركة.
الجمهورية الثانية لقد صحى اليمنيون مع نهاية سبتمبر من العام 2014 على كابوس ثقيل: اختطفت الإمامة الجديدة رأس الجمهورية وقطفت حلم الآباء، وبحث اليمنيون عن الجيش الذي كان يهز الأرض في ذكرى الاحتفال بالثورة، ليجدوا غالبية منتسبيه قد انخرطوا في جيش الظلام. خيبة ثقيلة كان لابد لها من ملهم يتقدم الصفوف، فتنادى اليمنيون وفي القلب منهم الإصلاحيون، إلى ميادين النضال المسلح لتشكيل نواة المؤسسة العسكرية والأمنية للجمهورية الثانية. ومنذ سبع سنوات والإصلاح يسطر أروع البطولات وأنبل التضحيات، تحت قيادة السلطة الشرعية مهما كثرت عيوبها، فذلك الطريق الوحيد لاستعادة الدولة. ومع الشركاء والرفاق مهما كبر لؤمهم، فلا يبتر عاقل ذراعًا آلمه. حرب تحرر ثقيلة يصدق فيها قول الشاعر: وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ فعلى أي جانبيك تميلُ دفع فيها الإصلاح أثمانًا باهضة، لكنه لم يعدها يومًا خسارات. قدم الآلاف من الشهداء في طليعتهم المئات من قياداته، تنفطر الأكباد وتسيل المآقي لكن السواعد لم ترتجف. بلا منّ ولا أذى .. وبلا حد. ليس ذلك لرغبة في الحرب، ولكن لاقتلاع مولد هذه الحروب. ثلاثة عقود كبر خلالها الإصلاح ونضج، أخطأ وأصاب، أرضى وأسخط، لكنه لم يغب يومًا عن موقف فيه يحتاجه الوطن، ولم يحضر في موقف لا يريده الوطن فيه. كان كذلك وسيبقى تجمعًا لليمنيين في سبيل استعادة جمهوريتهم الخالدة. سلوا الفجر عن شمس أحلامهِ طوت سَدْل أليلِ أيامه وجاءت إلينا تجوب القرون بشوق اليمانيْ وإسلامهِ سلوه وقد جاء في موعدٍ يصاحب ثورة أعلامهِ بسبتمبر حين قال الضياء هنا.. وأضاف بأقلامهِ على درب سبتمبر فلتسيروا فأنتم مسيرة إتمامهِ